المصدر كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي
الفصل الخامس: ( الشعر والجن )
وادي عبقر وادي يقع في نجد , وقيل انه في مكه ,
وهو وادٍ سحيق , واذا قيل فلان (عبقري) فهو نسبة الى وادي عبقر ,
وتقول الروايات ان هذا الوادي تسكنه شعراء الجن منذ زمن طويل , ويقال ان من امسى ليلة في هذا الوادي
جائه شاعر او شاعره من الجن تلقنه الشعر , وان كل شاعر من شعراء الجاهليه كان له قرين من هذا الوادي يلقنه الشعر..
مثل:- لافظ بن لاحظ صاحب امرىء القيس هبيد بن الصلادم صاحب عبيد بن الأبرص هاذر بن ماهر صاحب النابغه الذبياني
مدرك بن واغم صاحب الكميت وهذه بعض القصص عن وادي عبقر
قال أن أناساً خرجوا في سفر ومعهم دليل -أي رجل صاحب دلالة في الصحراء- اسمه ابن سهم الخشب وضل الدليل الطريق
فقال لمن معه: " باللات والعُزى ومناة الثالثة الأخرى ، قِفوا ! نحن على حافة وادي عبقر! " وأشار إلى بطن الوادي ،
نحو كثبان رمل مقمرة وناعمة، وإذا بكائن، على هيئة إنسان، يسوق ظليماً " ذكر نعام "
مربوطاً من خطمه بحبلة من الكتّان. كان مُقبلاً من عمق الوادي، فاستوحشنا منه،
وحتى الإبل بدأت ترغي وتتراجع بنا إلى الوراء . ومرق قريباً منا . كان أطول من الناقة،
ورأينا ظهره عارياً ، وفيه نمش أخضر، مثل طحالب تتشعّب على سطح ماء آسن، فارتعبنا.
وقف بعيداً عنا، وتلفّت نحونا ، وحدّق فينا مدة جعلت فرائصنا تنتفض ،
ثمَّ قال للدليل : " يا ابن سهم الخشب : من أشعر العرب ؟ " كان الدليل خائفاً فلم يُجب.
فأكمل : أشعرهم من قال : وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضربي بعينيكِ في أعشارِ قلبِ مقتـلِ
فعرفنا أنّه يقصد امرأ القيس. فقال الدليل: " باللاّت والعُزّى ومناة الثالثة الأُخرى، مَنْ أنت؟ "،
ورجع إلى الوراء حتى كاد يقع. فقال : " أنا لافظ بن لاحظ ، من كبار الجنِّ، لولاي لما قال صاحبكم الشعر ! "
ومضى، مقهقهاً. وقف دليل القافلة مذهولاً، وحدّق فيه حتى اختفى.
قُلنا له : "فما تقول في هذا؟" ،
فقال : " هذا لافظ بن لاحظ ، شيطان امرئ القيس الذي يُملي عليه الشعر،
قــال : ابن المروزي : حدثني أبي
قــال : خرجت على بعير لي صعب -أي سيء الطبع-
لا يملكني من أمر نفسي شيئا حتى مر على جماعة ظباء -جمع ظبي- في سفح جبل ,
على قلته رجل عليه أطمار له ، فلما رأتني الظباء هربت ،
فقال : ما أردت الى ما صنعت ؟
انكم لتعرضون بمن لو شاء منعكم عن ذلك ،
قـــال: فدخلني عليه من الغيظ ما لم أقدر أن أحمله ،
فقلت: ان تفعل بي ذلك لا أرضى لك ،
فضحك ، ثم قال : امض عافاك الله لطريقك ،
قــال : فجعلت أردد البعير في مراعي الظباء لأغضبه ،
فنهض وهو يقول : انك لجليد القلب !
ثم أتاني فصاح ببعيري صيحة ضرب بجرانه الأرض وسقطت عنه الى الأرض ، وعلمت أنه جان ،
فقلت : أيها الشيخ ! انك لأسوأ مني صنيعا .
فقال : بل أنت أظلم وألئم ، بدأت بالظلم ثم لؤمت في تركك المضي ،
فقلت : أجل ! عرفت خطئي .
قال : فاذكر الله فقد رعناك ، وبذكر الله تطمئن القلوب ، فذكرت الله تعالى ،
ثم قلت دهشا : أتروي من أشعار العرب شيئا ؟
فقال : نعم ! أروي وأقول قولا فائقا مبرزا.
فقلت : فأرني من قولك ما أحببت ،
فأنشأ يقول : طاف الخيال علينا ليلة الوادي*** من آل سلمى ولم يلمم بميعـاد*
: أنى اهتديت الى من طال ليلهم ***في سبسب ذات دكداك وأعقاد*
: يكلفـون فلاهـا كـل يعملـة ***مثل المهاة اذا ما حشها الحادي*
: أبلغ أبا كرب عنـي وأسرتـه ***قولا سيذهب غورا بعد انجـاد *
: لا أعرفنك بعد اليـوم تندبنـي*** وفي حياتي ما زودتنـي زادي*
: أما حمامك يوما أنت مدركـه ***لا حاضر مفلت منه ولا باد*
فلما فرغ من انشاده .
قلت له: هذا لعبيد بن الأبرص الأسدي ،
فقال : ومن عبيد لولا هبيد !
فقلت : ومن هبيد ؟
فأنشأ يقول : أنا ابن الصلادم أدعى الهبيد
:حبوت القوافي قرمي أسـد عبيـدا
:حبـوت بمأثـورة وأنطقت بشرا على غير كد
:ولاقى بمدرك رهط الكميت ملاذا عزيزا ومدا ومجـدا
:منحناهم الشعرعن قـدرة فهل تشكر اليوم هذا معـد
فقلت : أما عن نفسك فقد أخبرتني ، فأخبرني عن مدرك ،
فقال : هو مدرك بن واغم ، صاحب الكميت ، وهو ابن عمي ،
وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن ،
ثم قال : لو أنك أصبت (شربت) من لبن عندنا ؟
فقلت : هات ، أريد الأنس به ، فذهب فأتاني بعس (إناء) فيه لبن ظبي ، فكرهته لزهومته
فقلت : اليك ، ومججت ما كان في فمي منه ، فأخذه
ثم قال : امض راشدا مصاحبا !
فوليت منصرفا فصاح بي من خلفي :
أما انك لو كرعت في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك .
فندمت أن لا أكون كرعت عسه في جوفي على ما كان من زهومته .
قال مظعون بن مظعون الأعرابي:
اني ليلة من ذلك بفناء خيمة لي اذ ورد علي رجل من أهل الشام ،
فسلم ثم قال : هل من مبيت ؟
فقلت : انزل بالرحب والسعة !
فنزل ، فعقل بعيره ثم أتيته بعشاء فتعشينا جميعا ، ثم صف قدميه يصلي حتى ذهبت هدأة من الليل ،
وأنا وابناي أرويهما شعر النابغة اذ انفتل من صلاته ثم أقبل بوجهه الي
فقال : ذكرتني بهذا الشعر أمرا أحدثك به ، أصابني في طريقي هذا منذ ثلاث ليال .
فأمرت ابني فأنصتا ثم قلت له : قل ،
فقال : بينا أنا أسير في طريقي ببلقعة من الأرض لا أنيس بها اذ رفعت لي نار فدفعت اليها فاذا بخيمة واذا بفنائها شيخ كبير ، ومعه صبية صغار ، فسلمت ثم أنخت راحلتي آنسا به تلك الساعة ،
فقلت : هل من مبيت ؟
قال : نعم في الرحب والسعة ! ثم ألقى ألي طنفسة رحل ، فقعدت عليها ،
ثم قال : ممن الرجل ؟
فقلت : حميري شامي ،
قال : نعم أهل الشرف القديم . ثم تحدثنا طويلا الى أن قلت : أتروي من أشعار العرب شيئا ؟
قال : نعم ، سل عن أيها شئت !
قلت : فأنشدني للنابغة !
قال : أتحب أن أنشدك من شعري أنا ؟
قلت : نعم ! فاندفع ينشد لامرىء القيس والنابغة وعبيد ثم اندفع ينشد للأعشى ،
فقلت : لقد سمعت بهذا الشعر منذ زمان طويل .
قال للأعشى ؟
قلت : نعم !
قال : فأنا صاحبه .
قلت : فما اسمك ؟
قال : مسحل السكران بن جندل ، فعرفت أنه من الجن فبت ليلة الله بها عليم ،
ثم قلت له : من أشعر العرب ؟
قال : ارو قول لافظ بن لاحظ وهياب وهبيد وهاذر بن ماهر.
قلت: هذه أسماء لا أعرفها.
قال: أجل! أما لافظ فصاحب امرىء القيس ، وأما هبيد فصاحب عبيد بن الأبرص وبشر ،
وأما هاذر فصاحب زياد الذبياني ، وهو الذي استنبغه .
ثم أسفر لي الصبح ، فمضيت وتركته .
ذكر مطرف الكناني عن ابن دأب
قال : حدثني رجل من أهل زرود ثقة عن أبيه عن جده
قال : خرجت على فحل كأنه فدن يمر بي يسبق الريح حتى دفعت الى خيمة واذا بفنائها شيخ كبير ،
فسلمت فلم يرد علي ،
فقال : من أين والى أين ؟
فاستحمقته اذ بخل برد السلام ، وأسرع الى السؤال ،
فقلت : من ههنا ، وأشرت الى خلفي ، والى ههنا ، وأشرت إلى أمامي ،
فقال : أما من ههنا فنعم ؛ وأما لى ههنا ، فوالله ما أراك تبهج بذلك ، الا أن يسهل عليك مدارة من ترد عليه !
قلت: وكيف ذلك أيها الشيخ ؟
قال : لأن الشكل غير شكلك ، والزي غير زيك ، فضرب قلبي أنه من الجن ،
وقلت : أتروي من أشعار العرب شيئا ؟
قال : نعم ! وأقول
قلت : فأنشدني ، كالمستهزىء به ؛
فأنشدني قول امرىء القيس :
*قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*** بسقط اللوى بين الدخول فحومل*
فلما فرغ: قلت: لو أنّ امرئ القيس ينشر لردعك عن هذا الكلام!
فقال: ماذا تقول؟
قلت: هذا لامرئ القيس،
قال لست أول من كُفّر نعمة أسداها!
قلت: ألا تستحي أيّها الشّيخ، ألمثل امرئ القيس يقال هذا؟
قال: أنا والله منحته ما أعجبك منه!
قلت: فما اسمك؟
قال: لافظ بن لاحظ فقلت : اسمان منكران .
قال: أجل !
فاستحمقت نفسي له بعدما استحمقته لها ،
وأنست به لطول محاورتي اياه ؛ وقد عرفت أنه من الجن ،
فقلت له : من أشعر العرب؟
فقال: هاذر حيث يقول : *ذهب ابن حجر بالقريض وقوله ***ولقد أجاد فمـا يعـاب زيـاد *
قلت : من هاذر ؟
قال صاحب زياد الذبياني ،
وهو أشعر الجن وأبخلهم بشعره ،
فالعجب منه كيف أودع لأخي ذبيان به ،
ولقد علم ابنة لي قصيدة له
ثم صرخ بها : أخرجي وانشدينا..
فأنشأت تقول :* نأت بسعاد عنك نوى شطون *** فبانت والفؤاد بهـا حزيـن*
قال : لو كان رأي قوم نوح فيه كرأي هاذر ما أصابهم الغرق !
فحفظت البيتين ثم نهض بي الفحل ، فعدت الى اهلي .
قال العلاء بن ميمون الآمدي عن أبيه قال : خرجت أنا ورجل من قريش في ليل نطلب ناقة لي اذ أشرفنا على هوة ،
واذا بشيخ مستند الى شجرة عظيمة ، فلما رآنا تحشحش ، وأناف الينا ،
ففزعنا منه ، ثم دنونا منه ،
وقلنا : السلام عليك أيها الشيخ !
قال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ،
فأنسنا به ،
فقال : ما خطبكما ؟ فأخبرناه .
فضحك وقال : ما وطىء هذا الموضع أحد من ولد آدم قط ، فمن أنتما ؟
قلنا : من العرب ! قال : بأبي وأمي العرب ؛
قال : فمن أيها ؟
قلت : أما أنا فرجل من خزاعة ، وأما صاحبي فمن قريش .
قال : بأبي قريش وأحمدها !
ثم قال : يا أخا خزاعة هل تدري من القائل :
كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا أنيس ، ولم يسمـر بمكـة سامـر بلى !
نحن كنـا أهلهـا ، فأبادنـا صروف الليالي والجدود العواثـر
قلت : نعم ! ذلك الحرث بن مضاض الجرهمي .
قال : ذلك مؤديها ،
وأنا قائلها في الحرب التي كانت بينكم ،
معشر خزاعة ، وبين جرهم .
يا أخا قريش ! أولد عبد المطلب بن هاشم ؟
قلت : أين يذهب بك ، رحمك الله !
فربا وعظم وقال : أرى زمانا قد تقار ابانه ، أفولد ابنه عبد الله ؟
قلنا : وأين يذهب بك ؟
انك لتسألنا مسألة من كان في الموتى .
فتزايد ثم قال : فابنه محمد الهادي ؟
قلت : هيهات ! مات رسول الله ، منذ أربعين سنة !
قال : فشهق حتى ظننا أن نفسه قد خرجت ، وانخفض حتى صار كالفرخ ،
وأنشأ يقول : *ولرب راج حيل دون رجائه*** ومؤمل ذهبت بـه الآمـال *
ثم جعل ينوح ويبكي حتى بل دمعه لحيته ،
فبكينا لبكائه ،
ثم قال : ويحكما ! فمن ولي الأمر بعده ؟
قلنا : أبو بكر الصديق ، وهو رجل من خير أصحابه ،
قال : ثم من ؟ قلنا : عمر بن الخطاب
، قال : أفمن قومه ؟
قلنا : نعم .
قال : أما ان العرب لا تزال بخير ما فعلت ذلك . ************************************************
قلنا : أيها الشيخ قد سألتنا فأخبرناك ، فأخبرنا من أنت وما شأنك ؟
فقال : أنا السفاح بن الرقراق الجني لم أزل مؤمنا بالله وبرسله مصدقا ،
وكنت أعرف التوراة والانجيل ، وكنت أرجو أن أرى محمدا ،
فلما تفرقت الجن وأطلقت الطوالق المقيدة من وقت سليمان ، عليه السلام،
اختبأت نفسي في هذه الجزيرة لعبادة الله تعالى وتوحيده وانتظار نبيه محمد ،
وآليت على نفسي أن لا أبرح ههنا حتى أسمع بخروجه ، ولقد تقاصرت أعمار الآدميين ،
وانما صرت فيها منذ أربعمائة سنة ، وعبد مناف اذ ذاك غلام يفعة ما ظننت أنه ولد له ولد ،
وذلك أنا نجد علم الأحداث ولا يعلم الآجال الا الله تعالى والخير بيده ، وأما أنتما أيها الرجلان قأمضيا وأقرئا محمدا مني السلام ، فاني طامع بجوار قبره . فمضينا وفعلنا ما أمرنا به ....