مثل الحق والباطل
==========
سورة الرعد
قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟
قُلِ: اللَّهُ
قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ؟
: قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ؟
أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ؟
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ؟
قُلِ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)ا
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ
ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ
كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)ا
* * * * * * * * * * * *
معاني الكلمات
=========
أودية:
الوادي: سفح الجبل العظيم ، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ولعل منه
اشتقاق الدية ، لاَنّه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل
بقدَرها:
بمقدارها الذي اقتضته الحكمة ، والقدر: اقتران الشيء بغيره دون زيادة أو
نقصان ، فإذا كانا متساويين فهو القدر ، والقدْر والقَدَرْ لغتان مثل
الشَّبْر والشَّبَر
زبدًا: هو الغُثاء (الرّغوة) الطّافي فوق الماء
رابيًا: مرتفعا منتفخا
يوقدون: الإيقاد: إلقاء الحطب في النار
المتاع: ما تمتّع به
زبَدٌ: هو الخبث الطافي عند إذابة المعادن وغليانها ومنه زبد القدر وزبد السيل ، والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل
جُفاء: مرميّا به مطروحا أو متفرّقا ، يقال: أجفأت القدر بزبدها ، إذا ألقَتْ زبدها
الحق:
في اللغة هو الأمر الثابت ويقابله الباطل ، فالأوّل بمفهومه الواسع يشمل
كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين
الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من
الثبات فهي حقّ لا غبار عليها
المكث: البقاء والكون في المكان عبر الزمان
* * * * * * * * * * * *
المثل
====
: الآية تمثل للحق والباطل مثلاً واحدًا نستخرج منه تمثيلات متعددة
الأول:
أن السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره
زبدًا رابيًا عليه ، فالحق كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه
الثاني:
أن المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار ، تذاب ويعلو
عليها الخبث ، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن
خبثها وزبدها ، وعندئذٍ فالحق كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل
كخبثها وزبدها الطافح
الثالث: أن ما له دوام و بقاء ومكث وينتفع به
الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق ، وما ليس كذلك كزبد
السيل وخبث القدر الذي يذهب جفاءً يمثّل الباطل
* * * * * * * * * * * *
تفسير الآيات
========
ا(أَنْزَلَ
مِنَ السماء ماءً فَسالَتْ أَودِيَة) الواقعة في محل الأمطار المختلفة في
السعة والضيق ، والكبر والصغر ، ( بقدرها) أي كلّ يأخذ بقدره ، ففيضه
سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ ، فكلّ يأخذ بقدره وحده ، فقدر
النبات يختلف عن قدر الحيوان ، ويختلف عن الإنسان ، فكلّ ما يفاض عليه
الوجود إنّما هو بقدر قابليته ، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال
مطلق غير محدد ، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته
ا(فَاحْتَمَل السَّيْلُ زَبدًا رابِيًا) أي طافياً عالياً فوق الماء .. إلى هنا تمت الاِشارة إلى التمثيل الأول
ثم
إن الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافيًا على سطح أنواع الفلزات
والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والأمتعة ، كما قال سبحانه: (
ومِمَّا يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله )ا
إلى
هنا تمت الاِشارة إلى التمثيل الثاني ، كما قال: ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
الحقّ وَالباطل ) أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس
ثم
أشار إلى التمثيل الثالث وهو أنّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به (
فَأمّا الزبد فيذهب جفاءً ) حيث أنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفىَ
بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلاً متلاشيًا
ا( وَأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الاَرض ) فإنّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الاَرض
ثم إنه سبحانه ختم الآية بقوله: ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاََمْثال ) المراد هو وصف حال المشبه وبيانه
هذا
ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية ، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية التي
تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة
عليهما ، ولا بأس بالاِشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية:
1- أن
الإيمان والكفرمن أظهر مصاديق الحق والباطل ، ففي ظل الإيمان بالله تبارك و
تعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل ، والعواطف الاِنسانية ، فالأمة التي لم
تنل حظها من الاِيمان يسودها الظلم والأنانية وانفراط الأواصر الإنسانية
التي تعصف بالمجتمع الإنسانى إلى الهاوية
2- أن الزبد أشبه بالغطاء الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة ، فسرعان ما يزول وينطفىء ويظهر وجه الحقيقة أي الماء والفلزات النافعة
فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة، ولكنّه لا يمكث طويلاً فيزول كما يزول الزبد
يقول سبحانه: ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا )ا
وقال تعالى: ( وَيَمْحُ اللهُ الباطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ )ا
3-
أن الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له ، والزبد خبث لا ينتفع منه ،
فهكذا الحق والباطل ، فما هو الحقّ كالإيمان والعدل ينتفع به الناس ، وأمّا
الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.
4- أن الماء فيض مادي
يفيضه الله سبحانه إلى السماء على الوديان والصحارى ، فكل يأخذ بمقدار سعته
، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى
قليلاً من الماء وهكذا الحال في الأرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من
المعارف الاِلهية حسب قابليتها ، فهناك نفس كعرش الرحمن ونفس أُخرى من
الضيق بمكان يقول سبحانه: (ولَقَدْ خَلَقكُمْ أطوارًا)ا
وفي الحديث النبوي : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) .. فالمعارف الإلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالأودية المختلفة
ويمكن
أن يكون قوله ( بقدرها ) إشارة إلى نقطة أخرى ، وهي أن الماء المتدفق هو
ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والأشجار المثمرة في الأراضي الخصبة ، دون
الأراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلاّ الاَشواك
5- أن الماء يمكث
في الأرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال
استخراجه ، فهكذا الحق فهو ثابت لا يزول ، ودائم لا يضمحل ، على طرف النقيض
من الباطل ، فللحق دولة وللباطل جولة
6- أن الباطل في وجوده رهن
وجود الحقّ ، فلولا الماء لما كان هناك زبد ، فالآراء والعقائد الباطلة
تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها و
تزييفها ، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة ، وإليه يشير سبحانه:
( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا )ا
7- أن الباطل ينجلي
بأشكال مختلفة ، كما أن الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة
، فطريق الحق واحد وله وجه واحد ، أما طريق الباطل فله وجوه مختلفة حسب
بعده من الحقّ وتضادّه معه
كما قال سبحانه وتعالى: ( وَأَنَّ هَٰذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فوحد طريق الحق بطريق واحد فى كلمة "صراطي
مستقيم" .. وعدد طرق الباطل وجمعها فى كلمة "السبل"ا
8- أن في تشبيه
الحق بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أن الباطل كالزبد ، فكما أنّه
ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادىَ ،
فهكذا الباطل إنّما يظهر في الأوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو
قانون
9- أن حركة الباطل وإن كانت مؤقتة إنما هي في ظل حركة الحقّ
ونفوذه في القلوب ، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه ، كما
أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده
10- أن الباطل بما أنه
ليس له حظ في الحقيقة ، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه ،
ولو في فترة قصيرة ، ولكنه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور
في المجتمع ، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية ، فلو خلص منها لبطل ،
فهكذا الباطل في الآراء والعقائد
* * * * * * * * * * * *
قُلْ: كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ