لو أننى ولدت مسيحياً وعشت فى ظلال الكنيسة المصرية، فلن أستطيع إلا إعلان الدهشة والغضب من هذا الحجم الهائل من الهجوم على البابا شنودة، تحت شعار حماية الدولة المدنية، وسلطة القانون، واحترام أحكام القضاء، فى دوامة الخلاف حول حق الطلاق والزواج الثانى فى المسيحية.
ولو أننى مسيحى مصرى، أحيا هذه الفوضى غير الخلاقة فى العلاقة بين الدين والسياسة، والدين والمجتمع، والدين والقانون فى مصر، لاحترت فى توصيف هذه الصلافة فى التطاول على البابا شنودة، وتصنيفه الآن باعتباره رجلا خارجا على القانون، وعدوا للدولة المدنية، والخصم الأول للقانون، بل و(رئيس دولة داخل الدولة)، حسب لائحة التصنيفات التى انفجرت فى الصحافة والفضائيات المصرية فى مواجهة البابا.
لو كنت مسيحياً وراقبت كيف تصنع القوانين فى مصر، وكيف تتحسس الدولة خطواتها فى العلاقة مع التنظيمات الإسلامية، وكيف يخرج العلمانيون فى الحزب الحاكم ليدافعوا بشراسة عن المادة الثانية من الدستور، وعن حكم الشريعة الإسلامية، فيما يحاصرون البابا الآن لأنه اعتبر أن مرجعه فى الأحوال الشخصية هو الإنجيل ولا شىء غيره، لاعتبرت أن ما يجرى الآن ليس سوى ظلم للكنيسة، وكيل بمكيالين بين الإسلام والمسيحية فى مصر.
ولو كنت مسيحياً ورأيت كيف يتحدث هؤلاء عن احترام الأديان، وعن المساواة والمواطنة، ثم كيف يكسرون هم أنفسهم القوانين، ولا يحترمون أحكام القضاء، وتخرج التشريعات من بين أيديهم بلا قواعد، وبلا مرجعيات وطنية، وبلا روح، وبلا عدالة، وبلا دين من الأساس، لعصفت بى مشاعر الاضطهاد، ولاعتصرنى الغضب الجامح من كل ما يجرى فى بلادى.
لا يهم الآن إن كنتَ من مؤيدى الطلاق أو معارضيه، ولا يعنينى إن كنتَ مسيحياً ملتزماً أو مسلماً ملتزماً، وليس من شأنى هنا مدى إيمانك بدخول الدين فى القانون المدنى، ولكن كل ما يهمنى الآن أن تجيبنى أنت عن سؤال واحد: هل من حق البابا أن يحتكم إلى الإنجيل فى قضية عقائدية، يعتبرها هو والمسيحيون المصريون من ورائه سراً من أسرار الكنيسة أم لا؟
هل من حق البابا أن يطلب من أهل التشريع، أن ينص القانون على أن يحكم بما أُنزل إليهم من النصوص، أم أنه محروم من هذا الحق؟
فالبابا هنا، حسب تقديرى، لا يقف فى مواجهة القضاء، ولا يعادى الأحكام القضائية، لكن البابا يقف فى مواجهة التشريع الذى يحرمه الحق فى أن يعيش هو وشعب الكنيسة وفق ما آمنوا به من الإنجيل، ومن حق البابا كمواطن أن يعترض على التشريع، ومن حق المسيحيين كمواطنين أن يطلبوا تشريعاً يحترم عقيدتهم، وينزلها منزلاً مقدساً فى القوانين الوضعية، تماماً كما يسمح بهذا الحق للمسلمين الذين لا يقبلون تشريعاً يخالف ما آمنوا به من قرآن وسنة، وما نصت عليه الشريعة الإسلامية.
المسألة هنا ليست فعلاً ضد الدولة المدنية، بل إن جوهر الدولة المدنية من الأساس أن تضمن تعايشاً صحيحاً بين الإنسان والدين، والإنسان والمجتمع، لا أن تخلق عداوة غير مقبولة بين المؤمنين بالدين -أى دين- وبين المشرعين الذين يحرّمون ما أحل الله، أو يحلّون ما حرم الله، حسب كل اعتقاد.
لا أقصد هنا دفاعاً عن البابا شنودة، ولا أخفى بالمرة تعاطفى البالغ مع إخوتى من المسيحيين الذين يريدون الخلاص من علاقات زوجية فاشلة بلا أمل فى ذلك، لكننى أؤمن قطعاً أن الدولة المدنية ليست بأى حال خصما لأصحاب العقائد والديانات، والعلمانية لا تعنى مطلقا إنهاء دور الدين حتى فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، لكن المدنية والعلمانية يجب أن تنظر بإجلال للمعتقدات الدينية، ولا تضع نفسها وجها لوجه أمام تعاليم السماء، وما يؤمن به أصحاب الديانات المختلفة، الدولة المدنية لا تعنى نهاية الدين فى المجتمع، أو العداء للنصوص المقدسة، لكن الدولة المدنية هى التى تضمن المظلة الحقيقية لأتباع الديانات وهم يمارسون عباداتهم ويتبعون تعاليم شرائعهم بكل حرية دون أن يصطدم ذلك مع القانون، ودون أن يتم تصنيفهم باعتبارهم أعداء للمجتمع ولأحكام القضاء المدنى.
ليس دفاعاً عن البابا، ولكنه إقرار بحقيقة غائبة عن هذا المشهد الفوضوى، وليس دفاعا عن البابا، ولكنه دفاع عن مشاعر كل مواطن مسيحى يرى نفسه اليوم بين خيارين أحلاهما مر، فإما أن يعلن إيمانه بالقوانين الوضعية وأحكام القضاء ليضع نفسه فى مواجهة ما تعلّمه من الإنجيل، أو يعلن ثباته على تعاليم الإنجيل ليرى نفسه عدوا للمجتمع والدولة والقانون.
عيب أن نهوى إلى هذا الجدل العبثى، وحان الوقت لنعيد تعريف الدولة المدنية ليس باعتبارها خصما للأديان، بل باعتبارها الجنة التى يحيا فيها أتباع الديانات بكل حرية، ويمارسون عقائدهم بلا ردع، أو إرهاب فكرى، أو اضطهاد غير مباشر.