في غضون الفترة الماضية, وجد الغش بكل أنواعه حصارا من جهات عدة، فإمام
الحرم المكي فضيلة الشيخ السديس خصص خطبة ضافية مكثفة في التحذير من
تداعياته الخطيرة على المجتمع, فضلا عن المآثم التي تترتب عليه, سواء كان
الأمر فيما يتعلق بالسلع والبضائع من حيث الرداءة والتدليس, أو من حيث
التلاعب بالأسعار, أو تعلق الأمر بالتهاون بالعهود والمواثيق وأصول
المعاملات والقيم والأخلاق وحرمات الناس وقداسة الوطن.
كما رفعت وزارة التجارة والصناعة صوتها عاليا محذرة التجار المصنعين
والمستوردين من الإخلال بمعايير السلع بأنواعها أو المساس بها بخسا في
الحجم أو الوزن أو شروط الجودة ومواصفات التصنيع كما ينبغي أن تكون وكما تم
التصريح لها. وارتفع إلى جانب صوت وزارة التجارة صوت جمارك جدة على لسان
مديرها بأن 50 في المائة من شهادات المواصفات والمقاييس العالمية مزورة,
وقبلها أعلنت مناطق أخرى مشيرة إلى الكم من البضائع والسلع المغشوشة
والرديئة التي تم ضبطها، كذلك رفعت جمعية حماية المستهلك عقيرتها مؤكدة
أنها تهيب بالمواطنين تبليغها بحالات الغش والتلاعب بالأسعار، أما هيئة
الغذاء والدواء فقد سبق أن أعلنت أنها ستعمد إلى التشهير بكل من يخالف
المواصفات والمقاييس, وأنها ترقب السوق وما تكتظ به من سيل عرم من مواد
وسلع الشرق والغرب.
هذا التكالب الغيور في وجه جميع أشكال وأنواع وألوان الغش والمخالفات في
أسواقنا بالممارسات غير القانونية في المواد والسلع المتجر بها, أو في
آليات البيع ومن يقوم به .. كله جميل ورائع وصحوة نقف لها احتراما, لكن ..
ما بال الغش، مع ذلك، ساري المفعول على نحو مريع، يمارس بطولته الهدامة في
كل منافذ البيع: حوانيت وسوبر ماركات ومجمعات أسواق في مختلف المناطق ..
وهو مستمر قبل وأثناء وبعد كل هذا التكالب وهذه الصحوة ضده؟ فأي سر يكمن في
كونه يبقى كذلك رغم تصريحات تلك الجهات ووعيدها ورغم أن الصحف ووسائل
الإعلام الأخرى لا تكف أبدا عن مناشدة تلك الجهات المسؤولة لتقرن القول
بالعمل, خصوصا وزارة التجارة والصناعة؟
إذا كانت تلك الجهات تنبه وتحذر وتتوعد وهي المخولة - أصلاً - من قبل
الدولة بصلاحيات لا نقص فيها ولا ممانعة، بل فيها من التوجيه بالإنفاذ ما
لا يقبل التريث أو التردد .. فلماذا يظل الغش يستعرض سوءاته في أسواقنا؟
أكان غشاً في المعايير والمقاييس والجودة أو فيما يشكل أضرارا على الصحة
العامة والبيئة أو في التلاعب بالأسعار أو الاحتكار أو الإغراق أو السلع
المزيفة والرديئة، وكذلك بالتستر والاحتيال والسماح لعمالات وافدة لتصبح
«مافيا» تضع يدها على مقدرات هذا النوع من النشاط التجاري أو ذاك.
هناك حلقة مفقودة في مواجهتنا لظاهرة الغش بأنواعها، فمن ناحية, يضج
المواطنون بالشكوى لما يتعرضون له من ابتزاز وخداع ونهب لأموالهم وتعريضهم
لمخاطر شتى لدوران طاحونة الغش والغشاشين على المكشوف ولا من رادع, كما
تثابر الصحافة على نقل معاناتهم وتبادر في كل حين إلى نشر فضائح ووقوعات
الغش وأحابيله وضحاياه. ومن ناحية أخرى، تقابل تلك الجهات المسؤولة الصوت
بالصوت على أنها فعلت أو ستفعل .. وما زال الحال على هذا المنوال، كما لو
كان مناجاة للصدى, حيث لم تقو معه وزارة التجارة على تخليصنا من غش يزداد
ويتمدد بدل أن يقل وينكمش .. فأين الحلقة المفقودة؟
إنها في مكان «ما» بين «المواطنين والصحافة» من جانب, وبين الجهات
المعنية بمحاربة ظاهرة الغش من جانب آخر، ولا يمكن أن تكون عند «المواطنين
والصحافة» لأنهما الطرف المتضرر, وبالتالي فهي لا بد هناك لدى الجهات
المعنية بمكافحة الغش ومحاربته، خصوصا وزارة التجارة والصناعة، طالما أنها
المعنية بكل ما له صلة بالنشاط التجاري، وهي وإن كانت تحذر وتصرح وتعمل
بحدود، فذلك يعني بصريح العبارة أن الجانب النظري يأخذ محل الإجرائي,
وتكتفي بضبط مخالفات (كعينة) في كل حين كنوع من تسجيل الحضور، أما جمعية
حماية المستهلك وهيئة الغذاء والدواء فينبغي ألا تكتفيا بكونهما معنيتين
بمراقبة السوق ومسلكيتها ولا أن تجعلا من صلاحيات وزارة التجارة حائط صد أو
شماعة تحول دون ضرورة تكثيف حضورهما في الميدان. ما يشكل بدوره دافعا
وحافزا لوزارة التجارة نفسها كي تلعب الدور الحيوي المفروض أن تلعبه كما
يجب وكما هو مطلوب بإلحاح. وبعد .. فإنه إذا لم تملأ هذه الجهات مكانها في
كل منفذ للبيع أو سوق بشكل عملي حاسم ومحسوس باستمرار وليس بنوبات قصيرة
النفس من الفزعة فسيمثل ذلك دعوة للغش والغشاشين للاستمراء لفعل المزيد!