أمواج الأندلس أمواج عربية
أهلا ومرحبا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، يشرفنا أن تقوم بالتسجيل اذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه
عزيزى الزائر يسعدنا ان تنضم الينا وتلحق بنا
كى تفيد وتستفيد بادر بالتسجيل مع اطيب الامنيات ادارة المنتدا
ورجاء التسجيل باسماء لها دلالية الاحترام

أمواج الأندلس أمواج عربية
أهلا ومرحبا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، يشرفنا أن تقوم بالتسجيل اذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه
عزيزى الزائر يسعدنا ان تنضم الينا وتلحق بنا
كى تفيد وتستفيد بادر بالتسجيل مع اطيب الامنيات ادارة المنتدا
ورجاء التسجيل باسماء لها دلالية الاحترام

أمواج الأندلس أمواج عربية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


وطن واحد هدف واحد قلب واحد قلم واحد تلك هى حقيقة أمواج الاندلس
 
أمواج الأندلسأمواج الأندلس  الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  افضل موقع لتعلم الجرافيكافضل موقع لتعلم الجرافيك  أضغط وادخل وابحثأضغط وادخل وابحث  

 

 صوت البحر بقلم محمود البدوى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Alicia
مشرف الاهداءات والترفية
مشرف الاهداءات والترفية
Alicia


عدد المساهمات : 329
تاريخ التسجيل : 30/01/2010

صوت البحر  بقلم محمود البدوى Empty
مُساهمةموضوع: صوت البحر بقلم محمود البدوى   صوت البحر  بقلم محمود البدوى I_icon_minitimeالإثنين أغسطس 30, 2010 10:09 pm



صوت البحر

بقلم محمود البدوى


اشتغلت منذ سنوات فى مكتب للسياحة بشارع شريف بمدينة الإسكندرية .. وكان صاحبه رجلا إيطاليا يدعى « لوسيانى » كثير الأعمال ، واسع النشاط ، إذ كان يقوم بأعمال أخرى تجارية غير السياحة ، وكان لمكتبة فروع فى معظم الدول الأوربية .. كما كان له شركاء لا أعرفهم ، ولم أشاهد أحدا منهم فى مدينة الإسكندرية ..

وكان هو قليل الإقامة فى هذه المدينة أيضا.. وترك إدارة عمل المكتب لشاب متجنس بالجنسية المصرية يدعى « ميشيل » وكان مثقفًا خبيرًا بشئون السياحة إلى أقصى مدى .. ويجيد أربع لغات حية ويعرف كل شبر فى مصر وفى كل بلد له أتصال بعمل المكتب .. وكان يعتمد علىَّ اعتمادا كليا إذا سافر إلى الخارج ..

وكان فى المكتب ثلاث موظفات أخريات من خريجات المعاهد الأجنبية منهن مصريتان .. وكنا مع اختلاف ثقافتنا وسننا نكون مجموعة صالحة تجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية .. ولم نكن فى حاجة إلى لغة أخرى بالنسبة لعمل السياحة ..

وكان العمل فى المكتب متصلا طوال أيام الأسبوع فلا اغلاق فى يوم جمعة ولا أحد .. وكنا نتناوب بيننا يوم الراحة ونترك لكل منا اختياره حسب ظروف الأحوال .. وكثيرا ما كنا تحت ضغط العمل لا نستريح أبدا .. فقد كانت سمعة المكتب حسنة فى كل البقاع ..

وكان شعارنا الأمانة والصدق وحسن اللقاء .. وهى صفات لم نكن نتكلفها بل كانت من طباعنا ..

وكنت اتوجه إلى عملى فى الساعة التاسعة تماما من كل صباح لا أتأخر دقيقة ..

وفى صباح يوم من ايام الأثنين .. وكانت الساعة التاسعة إلا ثلثا .. شاهدت وأنا أمضى على الرصيف الأيسر من شارع « النبى دانيال » سيدة تعلق بعض المجلات الأجنبية على واجهة محل .. ولم أكن قد لاحظت من قبل وجود مكتبة فى هذا الشارع على الاطلاق .. لأنه كان يختنق بدكاكين صغيرة على الصفين لا علاقة لها بالكتب .. دكاكين الأحذية ، والملابس الجاهزة ، والسجائر والحلوى ، وحقائب السيدات ..

ووقفت أسأل عن جريدة « نيوز اوف ذا وارلد » فأجابت السيدة دون أن تتحول إلى ناحيتى ، ويدها مشغولة بترتيب مجلاتها :
ــ انها تأتى فى صباح الثلاثاء ..
وسألتها وأنا أتطلع إلى الواجهة ..
ــ المكتبة جديدة .. ؟
ــ إننا هنا من تسع سنوات ..

وواجهتنى وهى تقول هذا .. بصوت فيه لذعة السخرية من غفلتى .. ورأيتها سمينة قليلا وتقترب من طولى وهى واقفة على الرصيف .. وأنا تحته .. حتى لا يحتك جسمى بجسمها ..

وكانت قد شغلت الرصيف كله وفتحت « فترينة » المكتبة الخارجية لتضع فيها بعض الكتب الجديدة .. وانحنت ثم انتصبت فى رشاقة وسددت إلىَّ عينين فيهما من الشحوب مثل الذى رأيته على وجهها ..

وقلت وبصرى مركز على شفتيها المنفرجتين ..
ــ سأمر غدا ..
ــ مرحبا ..

وهبطت الدرجات وتركتنى اتطلع .. ولمحت المكتبة كلها فى عمق « البدرون وهى فى طول مع اتساع ، وممتلئة إلى السقف بالكتب ، فى تنسيق جميل ..

وعجبت لغفلتى ، وكيف لم الاحظ وجود هذه المكتبة من قبل ، مع أنى أمر كثيرًا من هذا الشارع .. وهى قريبة من مركز عملى ، وكثيرا ما احتاج للصحف والكتب الأجنبية .. فكيف كنت أبعد وأذهب إلى غيرها ..

* * *

وفى صباح الثلاثاء وجدتها فى الداخل ، وكانت فى رداء غير الذى شاهدته عليها بالأمس .. جونلة رمادية على بلوزة من « الجرسيه » والشعر مقصوص متموج .. والوجه أكثر شحوبا مما كان بالأمس .. والعينان العسليتان فيهما بريق مطفى ..

وثبتت بصرها على وجهى برهة .. وأدركت أنها نسيتنى تماما ، ونسيت أننى طلبت نسخة من « النيوز » ..
وجاءت بالصحيفة .. ونقدتها اثنى عشر قرشا ثمنها ..

وقلت أنا أقلب البصر فى رفوف الكتب :
ــ كنت أود أن يكون لدى وقت .. لأرى هذا كله .. ولكن الساعة تقترب من التاسعة .. أمفتوحة المكتبة بعد الظهر ... ؟
ــ المكتبة مفتوحة طول اليوم ..
ــ طول اليوم .. ؟
ــ لى شريكة تأتى بعد الساعة الثالثة .. وأنا فى الصباح ..
ــ والكتب رائجة .. ؟
ــ الحمد للّه .. اعتمادنا كله على مجلات الأزياء الآن ..

وكانت لهجتها مصرية خالصة وسرنى ذلك وحييتها وخرجت ..

* * *

وبعد يومين الفيتها وحدها فى الداخل كالعادة .. والساعة تقترب من الثانية والنصف بعد الظهر .. وحييتها بهزة من رأسى ، وأخذت استعرض الكتب الإنجليزية والفرنسية .. ولم أكن أبغى كتابا بعينه ..

وسألتنى بعد أن رأتنى أطلع فوق السلم المعدنى وأنزل منه .. دون أن أقع على شىء ..
ــ هل وجدت ما تطلبه .. ؟
ــ أبدا .. ومازلت أبحث ..
ــ رواية .. ؟
ــ نعم ..
ــ ما اسمها .. ؟
ــ الثعلب .. هل شاهدت الفيلم .. كان فى سينما « أمير » ..
ــ أبدا .. عن إذنك ..

وهبطت ، وطلعت هى .. وترددت قليلا قبل أن تضع قدمها على أول درجات السلم ، لأنى كنت أقف تحته مباشرة .. وأصبح وجهها فى لون الكريز عدة ثوان ..

ثم صعدت فى خفة رغم أنها سمينة نوعا .. ولكننى أدركت موقفها وما اعتراها من خجل فلم أرفع وجهى وهى صاعدة ورفعته وهى هابطة وبيدها الكتاب ، فتناولته من يدها ، وأمسكت بذراعها الناعمة حتى استوت على أرض المكتبة ..

وكان الكتاب من طبعة « بنجوين » وأعرف ثمن هذه الطبعة فاخرجت الأربعين قرشا .. وسألتنى وأنا أناولها النقود ..
ــ أترغب فى لفه .. ؟
ــ لا .. شكرا .. سأقرأه فى الترام ..

ولم يكن هناك سبب لبقائى .. ولكننى بقيت وأخذت أدير عينى فى عناوين الكتب فى الناحية التى وضعت فيها الكتب الفرنسية ..

فسألتنى :
ــ أتقرأ بالفرنسية أيضا ..
ــ أجل ..
ــ هذا جميل .. فالكتاب الفرنسى فقد سوقه عندنا منذ رحيل الأجانب ..
ــ ستخرج المدارس الفرنسية غيرهم ...
ــ أبدًا .. إن هؤلاء مع الأسف لا يقرأون إلا الكتب المدرسية ..

والفيت المجال انفتح أمامى للمحادثة .. ولما كنت أعرف أن شريكتها تأتى فى الساعة الثالثة ، فقد شعبت الحديث ، وأطلته إلى أن تجىء الأخرى ويقع عليها بصرى ..

وفكرت فى الأشياء التى تجعلها تستريح إلىَّ بعد أن لاحظت حالة المكتبة وما هى عليه من قلة الرواد ..

فقلت لها :
ــ أعرف أصدقاء كثيرين .. يشترون الروايات الأجنبية من " هاشيت " وغيرها .. وسأعرفهم طريق مكتبتك .. سيكونون زبائن جدد ..
ــ شكرًا .. شكرًا ..

وظهر على وجهها الفرح .. بدت ابتسامة خفيفة فى العينين الساكنتين .. وتكسر الجفن قليلا ، وعلت الوجنتين حمرة ورعشة .. وبدا الوجه أقل طولا مما هو فى الواقع ..
وظل جانب منها .. من عينيها ، وشفتيها ، يلاحظنى فى إصرار لأقول كلامًا أكثر .. كلاما كانت متعطشة إليه وفى أشد حالات اللهفة على سماعة.. ولكننى صمت ..

وقلت وأنا أنظر إلى الساعة :
ــ الساعة الثالثة وخمس دقائق .. لقد أخرتك ..
ــ أبدا .. لابد أن أنتظر شريكتى ..
ــ امعتادة هى على التأخير .. ؟
ــ قليلا .. انها موظفة ..

وقلت وأنا أهم بالذهاب ..
ــ أشكرك .. سأذهب لأن مشوارى طويل ..
ــ أين تسكن .. ؟
ــ فى اسبورتنج .. وسأعود للمكتب فى الساعة الخامسة ..
ــ أنا أقرب منك ..
ــ أين .. ؟
ــ فى الأبراهيمية ..

ولم اسألها ان كانت تسكن بالإيجار مثلى أم هو بيت الأسرة .. فقد صعدت درجات المكتبة ، وأستقبلنى جو الشارع البارد ..

* * *

وانقضى الخريف ، ودخلنا فى الشتاء ، وأخذت أفواج السياح الأجانب تتوافد على الإسكندرية من البحر ..

وكانت شركتنا تمتلك سيارة واحدة كبيرة تتسع لـ40 راكبا ويسافر فيها السياح فى جولات قصيرة إلى القاهرة .. ولزيادة العدد اضطررنا إلى استئجار سيارة أخرى وركبت مع السياح فيها كدليل .. وعدت بعد أسبوع مع الفوج ونحن نغلق المكتب فى التاسعة مساء ..

ولما مررت على المكتبة وجدتها مضاءة ، ولم أجد صاحبتى ، وجدت شريكتها التى حدثتنى عنها من قبل .. وكانت أصغر منها سنا وأطول قامة ، وأكثر خفة حركة ورشاقة ..

وسألتها عن « النيوز » ، وهى مشغولة بالحديث مع بعض الزبائن ..

فقالت فى برود وهى تحدق فى وجهى بشدة ..
ــ خلصت ..

ولم تزد حرفا واستدارت إلى الزبائن .. وكان وجهها الجامد الخالى من كل تعبير لا يغرينى على محادثتها ..

فتركتها وأنا أحاول أن أتذكر أين وقع بصرى على هذا الوجه من قبل .. ثم تذكرت أنها تركب ترام الرمل من محطة الابراهيمية فى ساعة معينة لا تغيرها .. وتدخل فى نفس العربة التى أجلس فيها ، وتحاول بقامتها الطويلة ، وشعرها الأسمر المتدلى وبعينيها الواسعتين أن تتلمس مقعدا فى زحمة الصباح .. فإن لم تجد لم تيأس وتظل واقفة .. فى مكانها من وسط العربة وعيناها تدوران فى كل اتجاه وحقيبتها ذات الحمالات على كتفها .. وما كان وجهها فى خلال المسيرة من الابراهيمية إلى محطة الرمل تتحرك فيه جارحة أو تحس معه بالحياة .. وانتقلت الصورة كما هى بكل صفاتها إلى المكتبة ..

كانت عاملة الصباح بوجهها الشاحب ورقتها أكثر إيناسا لى .. وهناك أناس تراهم فى الحوانيت ، وتنفر من سحنتهم الكئيبة ، ومن خمود ملامحهم ويجعلونك لا تفكر قط فى شراء أية بضاعة منهم .. وان كانوا يبيعون أجود الأصناف على الأطلاق ..
ولهذا نفرت من عاملة المساء ..

وقل ترددى على المكتبة فى أثناء نوبتها ..

* * *

ولما هبطت درجات المكتبة فى الصباح وجدت صاحبتى فى ركن تتعامل مع سيدة مسنة وشابة .. واستقبلتنى وأنا داخل بابتسامة خفيفة .. وتركتها حتى تفرغ منهما ..
واشترت واحدة ولم تشتر الأخرى .. وخرجتا ..

فرفعت إلىَّ وجهها كأنها تسأل :
ــ أى خدمة .. ؟

وكانت فى فستان برتقالى من التيل ، محكم التفصيل على جسمها المكتنز .. فأبرز مفاتن الجسد .. وأحمر وجهها قليلا لما لاحظت نظراتى التى ليس فيها أدب ..

وقلت وأنا أرفع « دافيد كوبر فيلد » من الصف ..
ــ لقد انقطعت لسفرى ..
ــ أين كنت .. ؟
ــ فى القاهرة .. رحلة للمكتب ..
ــ وجبتلنا أية معاك ..؟
قالت هذا بدلال وعامية حلوة وصوت أحلى ..

فأخرجت سريعا علبة صغيرة من جيبى وقدمتها لها ..
فتناولت العلبة وفتحتها وقالت فى دهشة :
ــ هل أخذت المسألة جد ..؟ هذا لى .. ؟ !
ــ بالطبع ..
ــ سلسلة .. وكمان دهب .. ؟!
ــ هذا قليل ..
ــ وهل كنت تفكر فى أنا .. وأنت فى القاهرة ومعك نساء جميلات .. سائحات من كل جنس ..
ــ أن هؤلاء لا يحركن مشاعرى أبدا ..
ــ صحيح .. ؟
ــ صحيح ..

وضحكت .. ورف وجهها مثل الأرجوان .. وسددت نظراتها .. وفى تلك اللحظة شعرت بأنى أميل إليها .. ولا أدرى إلى أى حد ..

* * *

وفى صباح الخميس ، وكنت أتقدم فى الشارع فى تؤدة .. لمحتها من بعيد ترتدى مريلة زرقاء وبيدها المكنسة ..

وكانت تكنس الرصيف الواقع أمام المكتبة وحتى ما يجاوز ذلك بمقدار أذرع .. وأشفقت عليها وأكبرتها فى الوقت عينه .. فإنها تقوم بكل عمل بنفسها .. دون أن تستعين بخادم وكثيرا ما تحمل مجلات الأزياء إلى زبوناتها فى بيوتهن لتسهل عليهن عملية الشراء والتردد بانتظام على المكتبة ..

ولم يظهر عليها الخجل أو تتوقف عن الكنس لما اقتربت منها .. وإن كانت يدها قد تباطأت قليلا .. وأزاحت خصلة من شعرها عن جبينها .. وانتصبت ترد على تحيتى ..

فقلت بابتسامة :
ــ خلى عنك ..
ــ العفو ..

وظلت الابتسامة الناعمة ترف على ثغرها ، وتركتها فى عملها وهبطت إلى قاع المكتبة .. وجاءت بعد قليل من الوقت فخلعت مريلتها وبدت تحت المريلة فى بلوزة بيضاء وجونلة زرقاء كأنها تستقبل بهما أسعد أيام الصباح .. وان كان الشحوب لا يزال يرى بعض آثاره على الخدين .. ولكن العينين أخذتا فى الالتماع ..

وبدافع من الشفقة البحتة اشتريت كتابين لم أكن أبغى شراءهما ..

وسألتها وهى تلفهما :
ــ هل أنت مستريحة إلى هذا العمل .. ؟
ــ وماذا أفعل غيره ..؟
ــ توظفى مثلا ..
ــ انى لا أحمل شهادات مجرد تعليم ثانوى فى المدارس .. الأجنبية ..
ــ انهم لا يطلبون الشهادات بالنسبة للمرأة .. وتستطيع من تجيد اللغات الأجنبية أن تقوم بأعمال كثيرة .. لا تتطلب الشهادة .. كالسكرتارية .. والآلة الكاتبة مثلا ..
ــ لقد قمت بعمل المكتبة وأنا صغيرة لأعول شقيقاتى بعد وفاة والدى وأمى .. كنت الكبيرة ولم يكن لهن عائل سواى .. وكنت أشترى لهن الكتب والكراسات من مكتبة بجانب بيتنا فى محرم بك .. فقلت لنفسى ولماذا لا أفتح أنا مكتبة ..

وفتحتها وحدى فى شارع تانيس .. وبعد هذا جئت إلى هنا .. وأشعر بالاستقلال والحرية .. وقد خفت أعبائى الآن وتزوجت شقيقاتى الثلاث جميعا ...
ــ وهل هن معك فى الإسكندرية .. ؟
ــ أبدا .. انهن بعيدات عنى .. وأقربهن إلى متزوجة فى طنطا ..
ــ لقد قمت برسالة عظيمة .. وأنت لماذا لم .. هل ..
ــ لم أتزوج .. لقد شغلت بهن ونسيت نفسى .. حتى فاتنى القطار ..
ــ أبدا .. لا تفكرى هكذا .. انك الآن فى سن الجمال الآسر ، فى أجمل ساعات العمر بالنسبة للمرأة .. فكيف تفكرين هكذا ..

وتضرجت وجنتاها .. وأنفرجت شفتاها .. والتمعت عيناها .. وشعرت بأن كلماتى ردت النضارة إلى وجهها .. وأجرت الدم فى شرايينها ..

وقالت هامسة :
ــ بصراحة .. لم أفكر فى الزواج أبدا وشغلت بالعمل .. كما ترى ..
ــ العمل .. جميل وطيب بالطبع .. ولكن لا تفكرى أن القطار قد فاتك أبدا .. فبعد عشرين سنة من الآن يمكن أن تقولى هذا ..

فقالت برنة فرح ..
ــ ما هذا .. ؟ !
وضحكت جذلانة طروب ..

وخرجت وأنا أشعر بالرضا .. لأنى حركت الرماد الذى كان خامدًا فى أعماقها ..

* * *

وبعد هذا الحديث لاحظت أن أحوالها تغيرت تمامًا .. وأصبحت تعنى باختيار فساتينها ، وتتزين ، وتستقبلنى وهى متعطرة .. فى بشاشة تطل من العينين والشفتين ..

وأصبح شراء الكتب لا يهمها .. بقدر ما يهمها حديثى .. وبمجرد دخولى إلى المكتبة .. أراها تفرغ مما فى يدها بسرعة .. لتقف بقربى وأنا جالس على الكرسى الذى أعدته لى بجانب الطاولة .. وأصبحت لا أشاهد من يجلس عليه سواى ..

وكانت تستبقينى ويطول بيننا الحديث ، إلى أن تحضر صاحبتها التى تأتى غالبا بعد الساعة الثالثة ..

ويحدث أحيانا أن أتأخر فى المكتب إذا أشتد ضغط العمل .. فإذا اتجهت إلى المكتبة الفيتها واقفة على الباب ونظرها معلق بالناحية التى أجىء منها .. فإذا أقتربت أرى كل جوارحها تتفتح لمقدمى كما يتفتح الورد للظل ..

ولاحظت أنها تشعر بالغيرة الشديدة إذا تبسطت مع زميلتها فى الحديث .. أو جاوزت الحد إلى المداعبة الخفيفة .. مع أنى لم أكن أشعر بالميل نحو شريكتها أبدًا .. وكنت أحاول فقط بالمداعبة الخفيفة أن أذيب بعض جمودها وأن أجعلها تتيقن أن علاقتى « بصفية » لا تتعد ما هو يجرى عادة بين صاحب المتجر والزبون ..

وعلمت أنهما تسكنان معا فى شقة واحدة فهما شريكتان فى البيت كما هما فى المكتبة .. « فصفية » لما أصبحت وحيدة فى الإسكندرية بعد زواج شقيقاتها .. أسكنت « عفاف » معها فى نفس الشقة .. والشقة ايجارها رخيص وتقع فى شارع تانيس ذلك الشارع الطويل الضيق ، الهابط الصاعد ، الذى يبدأ وينتهى إلى حدود الأبد ..

* * *

وعرض فيلم جميل فى سينما « رويال » .. والسينما قريبة من المكتبة ومن مكتب السياحة .. ففكرت فى أن تراه فى يوم الأحد وهو اليوم الوحيد الذى تغلق فيه المكتبة ..

ولما عرضت الرغبة على « صفية » قالت برقة :
ــ آسفة .. لا أستطيع أن أرافقك إلى حفلة فى السينما .. فأنا معروفة فى هذا الحى .. وزبونات المكتبة كثيرات .. وأنت تعرف السنة النساء ...
ــ الفيلم جميل .. وخسارة أن يفوتك .. وما دام وجودى معك يحرجك.. سأجىء بتذكرتين واحدة لك والأخرى لعفاف فى حفلة الساعة الثالثة ..
ــ لا تكلف نفسك .. ولا تعود عفاف على السينما ..

وابتسمت وأضافت :
ــ وكفاية وجودنا مع بعض فى المكتبة ..

تضايقت من رفضها رغم هذا الاعتذار الرقيق .. وبإحساس شاب فى مثل سنى لا يجد فى نفسه قبولا لمثل هذا الاعتذار ، وفى فورة غضب انقطعت عن زيارة المكتبة فى الصباح وأصبحت أمر عليها فى المساء .. أثناء وجود شريكتها عفاف ..

والفيت هذه رغم برودتها وما فى وجهها من قبح .. تتفتح عواطفها إذا كنت معها وحدى فى المكتبة .. ولا يوجد زبون آخر .. وتتطلب فى هذه اللحظات المداعبة الصريحة والغزل المفتوح ..

وتطورت العلاقة ولكنى وقفت بها عند حد النزهات الخلوية .. والقبلات والضحكات والسينما كلما غفلت عنا العيون ..
وكنت أمنيها برحلة إلى باريس فى الصيف المقبل ..

وكادت أن تستسلم لى بكليتها لمجرد الأحلام التى تدور فى ذهن الفتاة عن هذه الرحلة .. ولكننى لم أكن أحبها .. وعاملتها بلطف .. كما كنت أعامل رفيقاتى فى العمل فى مكتب السياحة اللواتى لم أكن أشعر نحوهن بأية عاطفة ، مع أن فيهن من تعد جميلة بين النساء ..

ولكن هناك أحساس فطرى لا يمكن فهمه ولا تفسيره بعين العقل فى هذه الحياة .. احساس يقرب المرء من هذه المرأة وينفره من تلك ..
وبهذا الاحساس عشت حياتى ..

* * *

وفى الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت ، وكنت أعبر إشارة المرور عند مقهى « التريانون » فى محطة الرمل ، تحت رذاذ المطر ، وجدت « صفية » تسير خلفى ..

وقالت وهى تقترب بلهجة عتاب .. !
ــ أكنت مسافرا .. ؟
ــ أبدا ..
ــ ولماذا لا أراك .. ؟
ــ شغلنى عمل كثير فى المكتب ..
ــ لا .. ليس هذا هو السبب ..
ــ ما هو إذن .. ؟
ــ اعتذارى عن السينما أغضبك .. ولماذا السينما .. نستطيع أن نكون مع بعض فى مكان آخر ..
ــ ولكنى أصر على السينما ..

وكان هذا حماقة منى .. وربما تكون السبب فى القطيعة .. وراعنى أنها أجابت فى رقة :
ــ سنذهب إلى السينما ..

وذهبنا إلى السينما فى حفلة الساعة الثالثة من اليوم التالى .. وكانت وادعة طيعة ، ومتعطشة لكل كلماتى فى الظلام ..

وعرفت أننى أقيم فى شقة على البحر فى اسبورتنج ، وأنام مع صوت البحر وهدير موجه العالى .. ومازلت أصف لها الشقة وما فيها من جمال حتى تشوقت إلى رؤيتها ..

وفى طريقنا إلى ترام الرمل ، اشتريت لها زجاجة عطر فرنسية من أجمل العطور فسرت بها كثيرا ..

* * *

وأخذنا نخرج معا للتنزه .. كلما وجدنا الوقت والفراغ .. وكنا نختار الليل دائما .. ودخل الشتاء علينا ونحن لا نكاد نشعر بامطاره وعواصفه .. فقد كنا فى دفء من العواطف ..

ولم أقل لها كلمة حب ، ولم تقل هى ذلك .. ولكن كل ذرة فى جسمينا كانت تنطق به .. ونسيت سمنتها والالتواء الذى فى ساقيها .. وأسرنى صدرها المكتنز .. وعيناها الساجيتان ، وشعرها المتموج ، والرقة التى فى حديثها ..

كانت تفيض بالعواطف الزاخرة .. وعرفت بيتها وعرفت بيتى .. ولكننا لم نتزاور بعد .. وقد مضت شهور طوال على أول لقاء ..

* * *

وفى ليلة من ليالى مايو .. وكنا راجعين من استانلى .. نزلنا من الترام فى اسبورتنج ونزلت معى صامتة دون أن تفتح فمها بكلمة .. أحسست بأنها مأخوذة بشىء لا تستطيع مقاومته ولارده .. شىء أقوى من كل إرادة للأنثى ..

ودخلنا شقتى .. ولما أصبحنا فى البهو الصغير وأغلقت الباب ورائى تعانقنا فى الظلام قبل أن ندير مفتاح النور ..

وكنت رقيقا وأنا أفك أزرار ثوبها .. وأحسست بها متعطشة للحب الذى جاءها قبل فوات الأوان ..

واخترنا شاطئ أسبورتنج للاستحمام أيضا ... وكنا نهبط فى اتجاه البحر من سلم صغير أمام باب الشقة .. وكان المكان الذى اعتدنا الاستحمام فيه حجريا كثير الصخور .. ولكنه غير عميق لأنها لا تعرف السباحة .. وهو آمن من السيف الرملى الذى يقع بجوار الكازينو .. والذى كثيرا ما يعصف فيه البحر ويعلو موجه ..

ولم يكن فى الجوار أحد فى هذا الصباح المبكر قبل الشروق بكثير ..

ودخلت الماء بصدرها ثم انتصبت فتساقط الماء مثل حبات الدر على خطوط جسمها اللدن .. وتقدمت فى حذر حتى بلغ الماء ردفيها المكتنزين .. وسمعتها تنادينى ..
ــ عزت .. تعال .. أنا خائفة ..
فأسرعت وأمسكت بيدها ..

وكنا نشاهد على ضوء الصباح الشاحب ، زوارق الصيادين هناك على خط الأفق ، واقفة فى نصف دائرة .. وأنوار قناديلها لازالت تشع ، وقد أخذت تسحب شباكها بعد أن ظلت طوال الليل تغرى السمك بالفوسفور البراق ، وبكل الحيل التى يعرفها الصيادون فى البحار الساكنة ..

ومالت برأسها على صدرى فى الماء فأحتضنتها وغطست بها .. وأحسست بكل ما فيها من نعومة وفتنة تحت ملمس أصابعى .. وطال بقاؤنا فى البحر حتى أحسست بالبرد .. فأخذنا طريقنا إلى الشاطئ فى حذر حتى صعدنا إلى الشارع الخالى من كل إنسان ..

* * *

وأصبحت « صفية » تقرع بابى فى ساعة معينة ..
ومرت أيام جميلة ..

* * *

وفى ليلة من ليالى الصيف الشديدة الرطوبة .. خلعت « صفية » بلوزتها وجلست على حافة السرير ..
وقالت من غير تمهيد :
ــ إنى حامل ..

وشعرت بسكين حادة تنغرس فى قلبى ، وسألتها وفى صوتى رجفة الخوف :
ــ هل أنت على يقين ..؟ يحدث كثيرا أن تنقطع ..

وقاطعتنى قائلة :
ــ إنه الشهر الثالث ..
ــ لا داعى لأن تضطربى .. فالمسألة أصبحت سهلة للغاية فى هذا العصر .. والأطباء كثيرون ..

وسألت بجفاء :
ــ أية مسألة .. ؟
ــ التخلص من الجنين ..
ــ ومن الذى قال لك أننى أريد التخلص منه .. ؟
ــ كل سيدة تفعل هذا ما دامت غير متزوجة ..
ــ ومن حدثك بأنى غير متزوجة .. ؟
ــ لم أكن أعرف هذا .. من هو ..؟
ــ أنت .. ومن كل كلامك المعسول عرفت رغبتك الأكيدة فى الزواج منى .. فلماذا تراوغ الآن كالثعلب .. سنتزوج قبل الفضيحة ..
ــ لم أستعد للزواج الآن .. وهو مسئولية وأعباء .. وأنا بحكم عملى فى مكتب للسياحة كثير الأسفار إلى الخارج .. وأحيانا يطول غيابى إلى سنة .. ومتى وجدت وظيفة أكثر استقرارا أعدك بالزواج ..
ــ إذا لم تقبل الزواج الآن .. سأحتفظ بالطفل ...
ــ هذا جنون .. وسمعتك .. لقد كنت تخشين السنة الناس من مجرد ذهابك إلى السينما ..
ــ ولكننى الآن لا أعبأ بشىء وسأحتفظ بالطفل ، لأنى فى حاجة إليه .. فى حاجة إلى رجل يقف بجانبى .. فى حياتى وعملى .. سأحتفظ به ..

وتنمرت سحنتها .. وخشيت أن يتطور الحديث معها إلى عراك .. فتركتها وحدها .. وخرجت إلى الشارع ..

ثم رجعت إلى نفسى ، وأدركت أن من الصالح لى أن أجاريها فى رغبتها فى الزواج ، لأمنعها من اثارة فضيحة .. ولذلك عدت إليها وأخذت أطمئنها .. ووعدتها بالزواج بمجرد تسلم المكافأة من الشركة التى يوزعها علينا « لوسيانى » عند مقدمه من أوربا .. لنستطيع بهذه المكافأة أن نؤثث بيتا جميلا يليق بنا .. واقتنعت .. وعاد إليها الصفاء ..

وأصبحت تجىء إلى شقتى فى اسبورتنج ، وهى مطمئنة غاية الاطمئنان .. كما كنت أذهب إلى بيتها فى الليلتين اللتين تغيب فيهما زميلتها « عفاف » وتسافر إلى أهلها فى دمنهور .. وكانت تسافر مساء الخميس كل أسبوعين .. وتعود فى صباح السبت إلى المصلحة مباشرة .. فكنا نقضى مساء الخميس ومساء الجمعة أنا وصفية معا فى عناق متصل .. وشعور بالراحة النفسية والحرية لأننا وحدنا فى البيت ..

وكنا نتخفف من ملابسنا ونستحم معا فى الحمام .. ونغطس فى البانيو الدافئ ..

وقد ولد عندى الحمام والسخان فكرة رائعة .. وجدت فيها خلاصى .. ولكننى أجلتها إلى حين ..

* * *

وسيطرت عليها فكرة الزواج .. سيطرة تامة فكنا نتحدث عنه فى الصباح والمساء وفى كل وقت نلتقى فيه ..

وكانت تقول لى أن صاحبة لها وجدت شقة فى ميامى .. أو فلمنج .. أو كليوباترا .. من البيوت القديمة ويطلب أصحابها خلوا ليس فيه مغالاة .. وتحت رغبتها كنا نذهب أنا وهى ونرى هذه الشقق لأزيد من اطمئنانها إلى وعدى ..

وفى كل شقة يظهر العيب واضحا .. فكنا نعود من الجولة دون نتيجة ..

واخيرا استقر رأينا على شقة جميلة فى الشاطبى .. ووجدناها الأحسن لنا فهى قريبة من مكان عملها وعملى .. كما أنها فى عمارة حديثة البناء وايجارها مقبول .. ونستطيع تأثيثها بسهولة بأثاث جديد لأنها من حجرتين فقط .. وحصرنا تفكير المستقبل فيها ..

وكنت إلى هذه اللحظة أشك فى الحمل وأتصور أنها لعبة جهنمية لعبتها لترتبط بى .. ولكننى تأكدت منه ذات ليلة وأنا فى بيتها .. وكانت تتجرد من ملابسها فى غرفتها ولا تتوقع دخولى عليها .. فلاحظت البروز بوضوح .. وأصفر وجهى فإن هذا الشىء لا أحبه أبدًا .. يكون لى نسل منها .. ؟ لا .. لا .. أبدا .. أبدا .. وساقنى التفكير المرعب إلى حالة جنون ..

* * *

وحدث فجأة ما شغل كل وقتى .. فقد كان هناك فوج من السائحين الأجانب عائد إلى جنوا على سفينة تركية بعد عدة أيام .. فوجدت الفرصة متاحة أمامى ، وأبديت لمدير المكتب رغبتى فى أن أسافر مع هذا الفوج على نفس الباخرة .. وأشتغل فى " جنوا " أو " مارسيليا " الأشهر المقررة لكل منا فى الخارج .. ووافق وبدأت الاتصالات بمكتبنا فى جنوا .. وبدأت أجهز جواز السفر والاجراءات كلها ..

وأخذ ذهنى يشتغل فى الوقت عينه بما هو أهم عندى .. ووجدت فى السفر الفرصة الذهبية لتنفيذه على الفور ..

وتحدد يوم السفر وتمت جميع الاجراءات وبقى على ميعاده خمسة أيام قضيتها مع « صفية » فى نزهات ليلية متصلة ..

وكتمت عنها خبر السفر طبعا .. وأكثرنا من الحديث عن الزواج وما يدخره لنا المستقبل من هناء ..

وفى صباح الثلاثاء ، علمت منها أن عفاف مسافرة إلى دمنهور فى مساء الخميس كعادتها .. فطار قلبى من الفرح ..

وفى مساء الخميس أعطتنى « صفية » المفتاح .. فدخلت الشقة قبلها .. وأغلقت هى المكتبة قبل ميعادها بساعة وجاءت منشرحة تواقه للعناق ..

وفى صباح الجمعة استيقظت قبلها ودخلت الحمام .. وأشعلت السخان وأخذت أعاين الجهاز بدقة وتناولت الخرطوم .. ووجدت أن الثغرة فيه تكفى ..

وبعد خروجى من الحمام كانت قد استيقظت فسألتنى :
ــ هل أخذت الحمام .. ؟
ــ أجل ..
ــ سأعد الشاى واستحم مثلك .. لقد تأخرت عن المكتبة ياعزت .. بسبب حبى لك .. وجنونى بك ..
ــ اليوم جمعة .. والتأخير ساعة لا يهم ..
وفرغنا من الشاى ..

وتناولت هى البرنس وملابسها الداخلية .. وبصرت بى خارجا من الحمام وهى تستعد لدخوله ..

فسألتنى :
ــ هل نسيت شيئا .. ؟
ــ نسيت الساعة .. وأشعلت لك السخان .. لأنه يعاكس ..
ــ شكرا ..

ودخلت الحمام وأغلقت الباب .. وسمعت صوت الدش .. وظللت أسمعه .. واستمر صوته .. ولم ينقطع تدفق المياه ..
وشممت رائحة الغاز يتسرب من فرجة الباب ..

وخيل إلىّ أنه ملأ جو الشقة فارتديت ملابسى على عجل ..

وعدت إلى باب الحمام فلم أسمع صوتها .. وكان من عادتها أن تغنى وهى واقفة فى البانيو ..

واستمر صوت الماء ..

* * *

وخرجت سريعا من باب الشقة .. واجتهدت ألا ترانى امرأة البواب وأنا أجتاز عتبة العمارة ..

واتجهت مباشرة إلى المكتب وكنت هادئ الأعصاب إلى الحد الذى جعلنى أعجب لحالتى ..

وبعد اغلاق المكتب .. ذهبت إلى السينما ثم دخلت حانة لأشرب وأثقل رأسى وأنام ..

ولما فتحت باب شقتى الصغيرة فى اسبورتنج وتمددت على السرير لم أنم .. وظللت أسمع صوت البحر ..

كان يهدر فى غضب .. لم أسمعه فى مثل هذه الحالة من الهياج أبدا .. كان موجه يعلو على رصيف الشارع ويضرب بابى المغلق .. والرياح من ورائه تصفر ..

كان البحر يحكى فعلتى وكل ما فعله ويفعله الإنسان بأخيه الإنسان فى هذا العالم المضطرب المتوحش منذ الأزل من عهد قابيل وهابيل ..
كان يحكى والرياح تصفر ..

* * *

وأغلقت أذنى ، وأغلقت عينى ، واسترخيت .. لم أعد أسمع صوت البحر .. بعد يومين ستقلع الباخرة .. وسأسافر وربما إلى الأبد ..

* * *

وتنفست الصعداء .. وأنا أدخل من باب الميناء .. وكدت من الفرحة أن أصرخ ..

وقدمت الجواز ودخلت الصالة الواسعة .. والباخرة أمامى على الرصيف ..
وكانت معى حقيبة واحدة ومر كل شىء سريعا ..

وفى مكتب بوليس الميناء .. نظر الضابط إلى الجواز .. وإلى وجهى .. ثم طوى الجواز ..

وقال لى وهو يبتسم :
ــ استرح لحظة ..
ــ أهناك شىء .. ؟
ــ سيدة تنتظرك فى الخارج .. وتريد وداعك ..

ونظرت من وراء الزجاج فوجدت « صفية » واقفة هناك فى الخارج عند صالة الجمرك وقد ظهر بروز بطنها بوضوح من خلال ثوبها الضيق ..

===============================
نشرت فى صحيفة الجمهورية 17/8/1982 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عودة الابن الضال " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
صوت البحر بقلم محمود البدوى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مختارات قصص من الإسكندرية بقلم محمود البدوى
» صفحة من حياتى بقلم : محمود البدوى
» مصر فى قصص محمود البدوى
» الأمواج ـ قصة محمود البدوى
» اللــؤلــؤ قصة محمود البدوى

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمواج الأندلس أمواج عربية  :: جميع أعمال الروائى محمود البدوى-
انتقل الى: