عندما تسيطر على الإنسان فكرة
معينة بحيث يصبح ما عداها خطأ، فهذا أخطر شيء يمكن أن يتعرض له الإنسان؛
لأنه بذلك يخرج عن إطار الحيادية والموضوعية بحيث لا يرى الحياة إلا من
زاوية واحدة، وبالتالي سيظل في مكانه لا يتحرك خطوة واحدة إلى الأمام.
فعبر العديد من الأفلام ارتبطت دولة المكسيك
في ذهني بالعصابات والمخدرات والجنس؛ ولذلك عندما تلقيت دعوة من البنك
الإفريقي للتنمية لتغطية فعاليات منتدى المياه العالمي الرابع الذي
استضافته العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي في مارس 2006 تملكتني حالة من
القلق والخوف؛ حتى إنها كادت تقضي على سعادتي بهذه الفرصة التي أتيحت لي
وأنا ما زلت أحبو في بلاط صاحبة الجلالة.
ولكن لحسن حظي أن هذه الحالة لم تستمر معي
طويلا؛ فقد جاء مقعدي بالطائرة بجوار باحث مصري مسافر لحضور نفس المؤتمر
وله سابق خبرة بدولة المكسيك فأزال كل مخاوفي عبر تأكيده أن هذه الصورة
مغلوطة؛ فهي لا تعبر إلا عن فئة ضئيلة جدا موجودة بالمكسيك كما هي موجودة
بأي دولة أخرى، وقال لي ستكتشف ذلك بنفسك عندما نصل إلى المطار.
أزال حديثه بعض القلق الذي كان ينتابني، ولكن
كان لا يزال في النفس شيء من الخوف بفعل التأثير الإعلامي، ولكن ما أن
وطئت قدمي المطار حتى اكتشفت صدق حديثه؛ فقد كان الاستقبال الخاص الذي تحظى
به الوفود المشاركة بالمؤتمر وسرعة إنهاء إجراءاتهم عبر مكان أعد خصيصا
لذلك كفيلا بأن يزيل الخوف من قلبي.
صناعة المؤتمرات.. الميزة الأهم
وما إن خرجت من المطار حتى بدأت الصورة تتغير
عندي تماما، ساعد على ذلك ما رأيته من نظافة بميادين العاصمة، وما
استنشقته من هواء نظيف كان مصدره الأشجار التي تملأ العاصمة؛ وهو ما دفعني
إلى أن أجزم أن دولة استطاعت تحقيق كل ذلك ليست بهذه الصورة القاتمة التي
صورتها لنا وسائل الإعلام.
|
المتظاهرون ضد تسعير المياه داخل مركز بنمكس للمؤتمرات |
وتأكد ذلك عندي عندما بدأت فعاليات المؤتمر
في اليوم التالي؛ فقد كانت قدرتهم على التعامل مع العدد الكبير من الوفود
التي شاركت به والذي وصل إلى 24 ألف مشارك بمنتهى السهولة واليسر، هو خير
دليل على أننا أمام دولة تجيد فن صناعة المؤتمرات الذي لا تزال منطقتنا
العربية تحبو في سبيل الوصول إلى إتقانه، والدليل تمتع دول عربية عديدة
بإمكانيات سياحية كبيرة ومع ذلك لا تستطيع تنظيم مثل هذا المؤتمر، ليس فقط
بسبب عجز في القدرة على التعامل مع الأعداد الكبيرة التي تشارك بمثل هذه
المؤتمرات، ولكن بسبب أيضا عدم وجود مكان يضاهي مركز "بنمكس" للمؤتمرات
الذي احتضن فعاليات المؤتمر.
هذا بالإضافة إلى سيطرة العديد من الأفكار
على السلوك؛ فلكم أن تتخيلوا ماذا سيكون تعامل الأمن بالدول العربية لو
فوجئ في أول أيام المؤتمر بمظاهرة ينظمها المناهضون لخصخصة المياه، ولأن
الإجابة أظن أنها معروفة عند الكثيرين فلن أخوض في تفاصيلها، ولكن ما يهمني
في هذا الإطار القول إن هذا حدث بالمكسيك في أثناء مؤتمر المياه، وبدلا من
أن ينهر الأمن المتظاهرين فوجئنا بهم يدخلون إلى داخل مركز المؤتمرات
ليعبروا عن رأيهم؛ وهو ما ساعد على أن يمر الموقف بسلام دون أن تتعطل جلسات
المؤتمر.
ولذلك لم يكن غريبا أن تفشل الدول العربية المشاركة بالمؤتمر في الحصول على حق تنظيمه بدولة الإمارات عام 2008 ليذهب إلى تركيا.
استثمارات أجنبية وعملة صلبة
ومع كل هذه المزايا لم يكن غريبا أن تحتل
المكسيك المركز الثالث عشر في الترتيب العالمي من حيث الانخراط في التجارة
الخارجية التي يبلغ حجمها 340 مليار دولار طبقا لبيانات صندوق النقد
الدولي، وهو الحجم الذي يعادل حجم التجارة الخارجية لدول أمريكا اللاتينية
مجتمعة.
ولم يكن غريبا أيضا أن تحتل المركز الثاني
بعد كندا وقبل اليابان والصين في قائمة أهم الشركاء التجاريين للولايات
المتحدة؛ وهو ما ألقى بظلاله على العملة الوطنية "البيزو" التي استطاعت
الحفاظ على صلابتها أمام الدولار ليزيد معدل صرفها بمقدار 35%، وتصبح أيضا
من أهم الدول الجاذبة للاستثمارات الأجنبية، حيث يبلغ معدل تدفق
الاستثمارات الأجنبية إليها 12 مليار دولار سنويا في المتوسط.
يا ليتني كنت مكسيكيا
والآن وبعد كل ما سبق أعتقد أن الكثيرين
يشاركونني الرأي في أنه إذا كانت المكسيك بهذا الشكل فيا ليتنا كلنا
مكسيكيون، مع الاعتذار للكاتب الكبير أحمد رجب الذي كتب بصحيفة الأخبار
القاهرية متمنيا أن يكون هنديا، وذلك بعد أن لاحظ -أيضا- أن الشخص الهندي
يرتبط في أذهان العامة المصريين بأنه الذي يمكن خداعة، وذلك في الوقت الذي
استطاعت فيه الهند تحقيق نهضة بالعديد من المجالات أهمها صناعة
الإلكترونيات بينما لا تزال منطقتنا العربية بعيدة كل البعد عن مثل هذه
الصناعات.