قلق مشروع
كتب السفير د مصطفى الفقى فقال
سرى في أنحاء مصر شعور بالقلق الذي يطرح عشرات التساؤلات لمجرد أن الشواهد الأولى للانتخابات البرلمانية أعطت مؤشراً بفوز حزب “الحرية والعدالة” الذي ينطلق من جماعة “الإخوان المسلمين” وكذلك حزب “النور السلفي” وغيرهما من رموز التيارات الدينية في مصر وكان محور الحديث دائماً هل سوف تصبح مصر دولة محكومة بتيار ديني؟ وهل أخفقت القوى الليبرالية بالضربة القاضية في الانتخابات الأخيرة؟ خصوصاً أن الانتخابات جرت في ظل إقبالٍ شعبي غير مسبوق كما أن احترام نتائج “الصندوق” هو جوهر فلسفة العملية الانتخابية في كل زمانٍ ومكان بدءاً من مفردات “البيعة” و”الشورى” وصولاً إلى النمط الديمقراطي الحديث . ولقد تلقيت شخصياً عشرات المكالمات الهاتفية وتعرضت لأسئلة مباشرة كثيرة حول المستقبل وملامحه ولم يقف الأمر عند هذا الحد إذ جرت مبالغات كثيرة للترويع والتخويف خصوصاً في أوساط أشقاء الوطن من مسيحيي مصر حيث رددت النكتة أنهم يهرولون قائلين (الحقي يا أم نجيب سوف نلبس جلاليب!) وتبدو الإشارة هنا إلى اسم المهندس نجيب ساويرس زعيم حزب “المصريين الأحرار” الذي يقود الكتلة الليبرالية في الانتخابات الأخيرة، وبغض النظر عن جدية ما يقال من هزله وواقعيته من مبالغته إلا أن لنا أن نرصد الملاحظات التالية:
* أولاً: إن المصريين والعرب والعالم الإسلامي تعودوا على جماعة “الإخوان المسلمين” باعتبارها فصيلاً سياسياً موجوداً على المسرح منذ أكثر من ثمانية عقود ولقد تعايشت معها الشعوب وإن اصطدمت بها النظم، ولكن جماعة “الإخوان المسلمين” تبقى في النهاية تنظيماً سياسياً أكثر منه دينياً كما أنها تمتلك من الخبرات المتراكمة رصيداً هائلاً من التعامل المباشر مع القوى السياسية المختلفة داخلياً وخارجياً، ويكفي أن نتذكر أن العاهل السعودي الأول الملك عبد العزيز الكبير قد استقبل الإمام الشهيد مؤسس الجماعة في أحد مواسم الحج وفي ذلك اعتراف مبكر بدورها، كما أن الحوار الذي جرى بين “النحاس باشا” زعيم الأمة والإمام الشهيد حول الدور الدعوي للجماعة والطموحات السياسية لها، أقول إن هذين النموذجين يشكلان مؤشراً واضحاً لمكانة الجماعة في الداخل والخارج مروراً بعلاقتها المتباينة بأسماء مثل أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي وإبراهيم عبد الهادي وصولاً إلى الرؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، فإذا كانت نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات تبدو مبرراً لقلق كثير من المصريين مسلمين ومسيحيين لكنه في ظني قلقٌ وقتي لأنه جرى استخدام الجماعة لسنواتٍ طويلة “كفزاعة” لتبرير سطوة النظم وسلطوية الحكام، ورغم أنني أختلف مع فكر الجماعة إلا أنني أعترف بالمستوى التعليمي لقياداتها، ويكفي أن نتأمل عدد حملة درجة الدكتوراه من بين أعضاء مكتب الإرشاد، كما أن رئيس حزب “الحرية والعدالة” تخرج في واحدة من الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية .
* ثانياً: إن ظهور “السلفيين” على المسرح السياسي أصبح مصدراً للدهشة والقلق بل والفزع أيضاً في قطاعاتٍ كثيرة من المجتمع المصري المعروف باعتداله ووسطيته رغم تدينه الذي اعترف به الغزاة بدءاً من “الإسكندر الأكبر” وصولاً إلى نابليون بونابرت اللذين حاولا تملّق ديانات المصريين عبر العصور، ولكن المشكلة تكمن في أن السلفيين ظهروا فجأة وكأنما انفتح قمقم ثورة يناير 2011 لتخرج منه أفواجهم التي لم تكن معروفة من قبل . . نعم كنا نسمع عن “جماعة أنصار السنة المحمدية” وعن “الجمعية الشرعية” وغيرهما من المؤسسات الدعوية ولكننا لم نكن ندرك أن القوى السلفية بهذا الحجم من ناحية وبهذا النمط من التفكير في ناحية أخرى، فضلاً عن أنهم يمثلون توجهاً متشدداً ينشر القلق في ربوع مصر ويصيب الأسرة العادية بحالة من الترقب التي غذتها سلسلة التصريحات غير المسؤولة من بعض القيادات السلفية غير المسيَّسة والتي لا تدرك أسلوب التعامل مع الساحتين الداخلية والخارجية، فأصابتهما معاً بقدرٍ من الإحباط والخوف من المستقبل، خصوصاً عندما قاموا بتغطية تمثال أثناء أحد مؤتمراتهم في مدينة الإسكندرية .
* ثالثاً: لعل هذه المواقف المتشددة والتصريحات المتشنجة هي التي أدت إلى شيوع حالة القلق المشروع في أوساط الشعب المصري وكادت تدفع بالكثيرين نحو الحصول على تأشيرات كندا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا في مشهدٍ حزين يبدو وكأنه تفريغ للوطن المصري من أفضل أبنائه، وإذا كنت أعيب على أشقائنا السلفيين نقص خبراتهم السياسية إلا أنني أعترف هنا بأن التعميم ظالم إذ إن لي صديقاً يترأس أحد الأحزاب السلفية وقد كان قبل ذلك واحداً من لواءات الشرطة المرموقين فضلاً عن تميزه كمؤلفٍ موسيقي معترف به عالمياً حتى إن “مملكة السويد” اعتبرته رجل العام في احتفال تكريمٍ له منذ عدة سنوات ومع ذلك فإنني أرى أن قطاعاً كبيراً من السلفيين يمثل مجموعات جديدة على المسرح السياسي من خلفيات مختلفة ومشارب متعددة ومستويات فكرية وتعليمية متفاوتة تجمعهم اللحية في الظاهر مع الاقتداء بالسلف الصالح في الباطن .
رابعاً: أتوجه إلى قيادات حزب “الحرية والعدالة” ووراءهم الجماعات السلفية التي تقتحم الحياة السياسية في مصر لأول مرة مطالباً إياهم بخطابٍ معتدل يقترن بتلك الأفكار الهادئة التي قدمها الصديق الدكتور محمد مرسي في أحد البرامج التلفزيونية وليس أبداً تلك المشاهد المقلقة التي تابعها المصريون لبعض القيادات السلفية من أبناء وطننا وهم يتحدثون في الفروع ويتركون الأصول ويختزلون الدعوة الإسلامية كلها في بعض المواقف الحادة والآراء الصارمة .
* خامساً: إنني ممن يظنون أن الخبرة السياسية هي أشد ما يعوز التيار السلفي حالياً ولا بأس لو أنهم استعانوا بخبرات جماعة “الإخوان المسلمين” خصوصاً أنني أقول دائماً إن الفكر السياسي للجماعة يشكل ما يزيد على ثمانين في المئة من جوهر فلسفتها والباقي يمثل الإطار الديني لها بينما السلفيون يتصرفون بثمانين في المئة انطلاقاً من فهمهم للدين الحنيف ويكتفون بالنسبة الضئيلة الباقية التي تمثل خبراتهم السياسية القصيرة، ويجب ألا ننسى بالمناسبة أن الإمام الشهيد حسن البنا أسس الجماعة بعد سقوط الخلافة العثمانية بسنواتٍ قليلة وهو ما يعكس الدافع السياسي الكامن وراء ذلك الحدث الكبير .
. . تلك قراءة لحظية للمشهد السياسي الراهن بما يحيط به من مخاوف ويعتريه من قلق، لذلك فإنني أطالب التيار الديني بقيادة الجماعة بالتركيز على الخطاب الموضوعي الهادئ وفقاً لفقه الأولويات بعيدين عن الشعارات الصاخبة والعبارات المستفزة والتصريحات التي لا مبرر لها