موسم الهجرة إلى الشمال
رواية للأديب السودانى «الطيب صالح»، استعار أهل النفوذ والسلطة فى قطر عنوانها لجعلها الفترة المناسبة للتخطيط لأعمالهم الانقلابية ضد الحاكم بأمره، وإن كان موسم الهجرة إلى الشمال فى رواية «صالح» يقصد به الهجرة للاطلاع على الآخر بما يحمله من مفاهيم وقيم مختلفة، فإنه فى الحالة القطرية يقصد به حزم الأمتعة صيفاً للتوجه نحو أعالى أوروبا هرباً من حر قطر الملتهب، الأغنياء منهم لا يكتوون بهذه الحرارة، فهى جُعلت فقط للعمالة من البنغال والهنود وللفقراء والمنبوذين من الشعب القطرى، أما صفوة القوم فلهم رب يحميهم، رب المال والنفوذ.
غير أن الحاكمين بأمرهم فى قطر يغبطون حتى الذين لا يقدرون على دفع مصاريف موسم الهجرة إلى الشمال، فإن كانت أجسادهم فى الشمال فإن عقولهم وقلوبهم فى الجنوب خشية من الغدر والخيانة، شأنهم كشأن أى حاكم غير عادل يخاف من ظلمه للناس، ومن قطعة للرقاب وللأرزاق، فليس أخطر من أن يضيق العيش على معدم، وتضيق السبل بمنكسر الجناح.
ميزة الانقلابات فى مشيخة قطر، أنه يبدأ التخطيط لها فى فصل الشتاء لتكتمل فصولها فى فصل الصيف، تقريباً لا يمر صيف دون الكشف عن محاولة انقلابية، الكثير منها يقع كتمانه رغم وجود قناة المخابرات «الجزيرة» على بعد أمتار فقط من المواقع المسترابة، مما يجعل من صيف قطر جحيماً فوق جحيم، وكأن الله أراد بالحاكمين بأمرهم فى المشيخة العذابَ فى الدنيا قبل الآخرة، لا يهنأ لهم بال، لا فى الشتاء ولا فى الصيف.
تبدو مشيخة قطر بحجمها الصغير كقرية وديعة، وهى ككل دول الخليج العربى حارة جداً صيفاً، بما لا يسمح لأهلها بالبقاء فيها خلال أشهر القيظ، فتبدو شبه خالية إلا من العمالة الآسيوية الرخيصة والمغلوبة على أمرها، مما يساعد على أى تحرك عسكرى، لا يتحرك العسكر إلا عندما يخرج الأمير فى رحلته الصيفية، فهو وإن خرج يحمل معه ما ثقل من المتاع ومن الحجّاب والخدم، وكل الذين لا ينالون ثقته.
2 - المرأة التى هزت عرش قطر
موزة بنت ناصر المسند، والدها واحد من أعيان قطر، كان معارضاً لحكم آل خليفة، تكبد والدها ناصر المسند، بسبب دفاعه عن حقوق أهل قطر، التضييق والسجن، واضطر إلى اختيار المنفى الاضطرارى عام 1964 متوجهاً إلى الكويت يصحبه آلاف القطريين من أتباعه ومحبيه، تعبيراً عن مكانة الرجل ومستوى التضامن مع ما يمثله من معارضة ومطالبة.
كانت دعوته لكبار أهل قطر، ومنهم والده وآخرون، أن يقوموا بواجبهم، وأن يفاتحوا حاكم قطر ويصارحوه، مطالبين بحقوق أهل قطر والمساواة بينهم فى الحقوق والواجبات عامة، وفى الانتفاع من عائدات النفط تحديداً، كما يطالبون الحاكم بتطبيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية والمساواة أمام العدالة وفى القانون، ووقف حظر الهجرة وضبط عملية التجنيس، أسوة بما حققته دولة الكويت، وما تقدمه لمواطنيها فى ذلك الوقت من رعاية وحماية وخدمات اجتماعية ومساواة أمام القانون والمحاكم.
قامت باعتقاله القوات القطرية سنة 1963 وبقى فى السجن إلى حدود سنة 1964، بعد أن توفى رفيقه «حمد العطية» فى السجن، أُطلق سراحه، واختار المنفى، فهاجر نحو الكويت، مما اضطر قبيلة «المهاندة» وأهل «الخور» و«الذخيرة» كلهم إلى أن يهاجروا مع ناصر المسند إلى الكويت عام 1964 بعد التضييقات الكبيرة التى يتعرض لها.
ظل «ناصر» يناضل من الكويت، ويحث أتباعه على عدم التراجع عن مطالبهم، مما أقلق راحة النظام القطرى، بما يمثله «ناصر» من وزن فى الشأن القطرى العام. أمام عدم انكسار شوكته، ولإيجاد مصالحة شاملة وراديكالية، خاصة أن شوكة «ناصر» بدأت تقوى، فهو حر طليق بالكويت رغم ما قد يمثله من إحراج للسلطات الكويتية التى من مصلحتها حصول اتفاق بين «ناصر» و«خليفة» حتى لا تبقى فى إحراج بين نفوذ «ناصر» المعارض ونظام «خليفة» الرسمى، بدأ البحث عن طريق يحفظ ماء وجه الجميع، ولا شك فإن الطريق المثلى لمثل هذه العداوات هو طريق المصالحة عن طريق المصاهرة.
لـ«ناصر المسند» فتاة يانعة، جميلة ورقيقة يمكن أن يزوجها حاكم قطر «خليفة» لابنه «حمد»، ستصبح هذه الفتاة مع مرور الوقت المرأة الحاكمة بأمرها فى قطر، والأكثر نفوذاً وتأثيراً فى العالم العربى، امرأة توفرت لها جل الإمكانيات المادية والمعرفية، شديدة الذكاء، عنيدة، محبة للتحدى وطموحة، كل هذه العوامل ستفتح لها طرقاً جديدة.
سترسم سياسة جديدة براجماتية، قائمة أحياناً على النفعية المباشرة وأحياناً أخرى على الانتهازية المقيتة. امرأة لا ترحم أعداءها، تعرف كيف تفتك بهم، تقتنص الفرص فتحولها لبرامج ومشاريع خطيرة.. لإيقاف هذا الإبعاد ولإجراء مصالحة بين ناصر المسند وحاكم قطر، وقع تزويج «موزة» ابنة ناصر المسند بـ«حمد بن خليفة».
فى الأصل، الشيخة موزة كانت ضحية لصفقة مالية وسياسية بين أبيها ناصر المسند والحاكم السابق «خليفة»، فقد كان ناصر المسند من أهم المعارضين للحكم، وتزويج ابنته من ابن الحاكم تم عبر صفقة سياسية تخلى بموجبها المعارض عن معارضته فى مقابل نفوذ من نوع خاص.
لم يكن تزويج «حمد» بـ«موزة المسند» إلا ليشكل انقلاباً فى حياة خاصة، وفى تاريخ المشيخة عامة، كانت صفقة الزواج بين «آل خليفة» و«آل المسند» صفقة سياسية بالدرجة الأولى تهدف إلى وضع حد لطموحات «آل المسند» السياسية وتخفيف الضغوطات من والدها المعارض على نظام حكم خليفة آل ثانى، ولم يكن الشيخ خليفة يتخيل أن ابنة خصمه ناصر المسند يمكن أن تدق المسمار الأخير فى نعشه وتجرده من حكمه فى وضح النهار وتحكم على بقائه منفياً بالخارج.
لم تكن «موزة» أكثر من معادلة لتقريب وجهات النظر والقطع مع المعارضة فى بلد صغير جداً، عدد سكانه يحسب بالآلاف، كانت المعادلة لا تمنحها أكثر من مجرد زوجة ثانية للشيخ الصغير «حمد بن خليفة» الذى ارتبط ببنات عمومته -«حمد» متزوج من ثلاث نساء- وبدل أن تكون «موزة» مجرد رقم فى زوجات «حمد» ومثلما كان الهدف الأساسى من زواجها متمثلاً فى الإنجاب والإكثار من النسل، اختارت «موزة» أن يكون لها رأى آخر غير الذى وقع رسمه.
تتميز «موزة» بذكاء حاد، امرأة عصرية وتسلطية تسعى للحكم ولفرض الرأى. متعطشة للسلطة وللسلطان. لكن مساعى «موزة» وزوجها سوف تصطدم بحقائق التاريخ، خاصة أن المشيخة بتكوينها الحالى كانت خطأ جسيماً تواطؤ فيه النظام البريطانى الذى عمل على تجزئة المنطقة، إضافة إلى أن تاريخ قطر الحديث لم يعرف استقراراً سياسياً حيث مثل التكالب والصراع على الحكم أهم ميزة.
لم تعرف قطر استقراراً بين أبناء نفس العائلة الحاكمة وهذا ما جعل البلاد تغرق فى وحل الدسائس والمؤامرات، تداخلت فيها فضائح أخلاقية ومالية وجنسية وصراعات على النفوذ بين أفراد العائلة الواحدة، وغدر بالمحارم توّجها الحاكم الحالى الشيخ حمد الذى طرد والده العجوز من الحكم واتهمه بالسرقة والاختلاس وتركه يعتاش على الهبات فى السعودية وغيرها من دول الخليج.
لم يكن الشيخ خليفة نفسه يتوقع أن تتطور المصالحة إلى درجة تصبح فيها الصفقة «موزة» هى الحاكم الفعلى فى قطر والعقل المدبر لعملية انقلاب أبيض أطاح بالشيخ الأب «خليفة» بل وأطاح فيما بعد بأولاد زوجها «حمد» من زوجته الأولى مريم بنت محمد آل ثانى.
لم تقتنع الشيخة موزة بأن تكون مجرد زوجة ولى العهد أو أن تعيش على الهامش وسط ثلاث نساء لا يقتسمن معها حلم السيدة الأولى فقط، وإنما يسبقنها فى شرعية السلطة لأبنائهن، وضع موزة كزوجة ثانية بين ثلاث زوجات ليس أبنائها حظ فى الخلافة، كما أنه ليس لها حظ فى أن تكون امرأة التغيير، ما ميز الشيخة موزة أنها كانت الأقرب إلى قلب زوجها وأكثرهن فطنة وحيلة من بين زوجاته، حيث نجحت فى تأليب «حمد» الطامح بخلافة والده وعملت على إيقاظ نار السلطة والنفوذ فيه، وأن يسبق أبناء عمومته الذين بدأت شوكتهم فى التعاظم، حيث تجلى ذلك جيداً فى مجاهرتهم فى المطالبة بالحكم، فحركت فيه غرائز السلطة فهمّ بالإسراع للاستيلاء على الحكم من أبيه، خاصة أنه تناء إلى علمه بأن والده يحضر لدعوة أخيه من الخارج لتسليمه مقاليد السلطة.
لقد اجتمعت العديد من المتناقضات لتصب كلها فى مصلحة الشيخة موزة، سيتحقق هدف زواجها الذى كان من الأساس الاستيلاء على الحكم والثأر لوالدها.
ألم نحرق القائدة البربرية الكاهنة تونس حتى لا ينعم بخيراتها الفاتحون الجدد؟ ألم تحرق عليسة حاكمة قرطاج نفسَها وأبناءها عندما خسرت المجد والسلطان؟
استطاع والد «موزة» الثأر من والد «حمد» عن طريق ابنته، عن طريقها استطاع الحصول على نفوذ لم يكن يحلم به من قبل، فلم ينسَ ناصر المسند التنكيل وأساليب الاضطهاد التى مورست عليه وعلى ذويه وأتباعه فى عهد والد «حمد» وجعلهم يعيشون فى الشتات.
استطاع ناصر المسند الانتقام من الشيخ خليفة وجعله يعيش بدوره فى الشتات، لقد كانت ضربة مدوية لعبت فيها الشيخة موزة وزوجها «حمد» دوراً حاسماً، فليس أكثر جرحاً وإيلاماً من عقوق الوالدين، كعادة جل المخططين البارعين يديرون كل شىء من وراء الستائر، تمسك الشيخة موزة فقط بخيوط الماريونات توجهها أينما تشاء ووقت ما تشاء، فكان لها ما أرادت، استراحت من «خليفة» ونصبت زوجها «حمد»، أوغرت صدره ضد نسائه الأخريات وضد ولى عهده «مشعل» من زوجته مريم بنت محمد آل ثانى، فكان لها ما أرادت فعُزل ولى العهد ووضح تحت الإقامة الجبرية رفقة أخيه «فهد».
حمد بن جاسم أول من بارك الانقلاب وكان متواطئاً فيه، وهو من يحكم فعلياً فى قطر رفقة الشيخة «موزة»، الشىء الذى يجعل ابن أخته الأمير «حمد» كثير الشك به، غير ذى ثقة، فكيف يمكن الارتياح لشخص باع زوج أخته لصالح ابنها، ميزة الانقلابيين والمتواطئين أنهم يجتمعون حول الشك والريبة وعدم اطمئنان كل للآخر، لا يمكن لـ«حمد» السفر خارج قطر إلا وخاله «حمد» فى صحبته، ينتظر منه أن يغدر به، ولذلك فهو يصحبه فى كل رحلاته خارج قطر، خاصة الصيفية منها، وذلك خوفاً من أن يقود انقلاباً ضده أحمد بن جاسم، رجل متحدث لبق له العديد من العلاقات خارج قطر مع مؤسسات وحكومات وأشخاص نافذين فى عالم المال والسياسة والسلطة، وهذا ما يثير الحنق لدى «حمد».
يكتوى الأمير حمد بن خليفة بنارين: فمن جهة لا يمكنه الاستغناء على إمكانيات خاله فهو المحنك والسياسى والدبلوماسى الخطير والمهندس الفعلى للسياسة الخارجية القطرية، ومن جهة أخرى يحتاط من إمكانياته الكبيرة وطموحه العنيف الذى قد يقوده إلى الانقلاب على «حمد» وافتكاك الحكم منه.
بعد نجاح «موزة» فى تثبيت زوجها «حمد» فى الحكم، ستمر للمرحلة الموالية وهى تنصيب ابنها «جاسم» ولياً للعهد، وذلك بإيغال صدر «حمد» على ابنه «مشعل» من الزوجة الأولى، لقد كان لموقع الشيخة موزة فى القصر أن مكنها من الاطلاع بالاهتمام الكبير الذى يوليه الجد «خليفة» بحفيده مشعل، وهو ابن من الزوجة الأولى لـ«حمد» على اعتباره الحاكم القادم، خصوصاً أن زوجها «حمد» مصاب بقصور كلوى مما يقلل من فرص التوريث الذى تسعى إليه الشيخة موزة، فكان لزاماً عليها المسارعة بالتخطيط والتنفيذ قبل حصول أى مكروه لزوجها فتضيع بذلك الفرصة من يدها إلى الأبد، ولن يصير لها أن تصبح كاهنة أو حاكمة.
لكى يبعدوا «مشعل» عن ولاية العهد، وقع الاهتداء إلى نعته بالمختل حتى يثبتوا عدم أهليته للحكم، كان لزاماً على «حمد» أن يحسم الأمر فى تنصيب ابنه «جاسم»، لم يمنع إقصاء ولى العهد «مشعل» من إمكانية الحكم وتنصيب ابنها «جاسم» مكانه من أن يحد من تثبيت مركزها داخل البلاط الأميرى، فعملت «موزة» على تقوية علاقاتها فى أوساط الأسرة الحاكمة حتى تضمن المشيخة لابنها، خاصة أن زوجها يعانى من قصور كلوى، بالإضافة إلى أن للشيخ الصغير أكثر من متربص يتحين الفرصة للانقضاض عليه، فأخواه «مشعل» و«فهد» من زوجة «حمد» الأولى يطلبان المشيخة لأنفسهما وعمه القوى الشيخ عبدالله يرى نفسه أحق بولاية العهد، وحمد بن جاسم لا يخفى حلمه بحكم قطر، فالعصر عصر الثورات وهو المسيطر على اقتصادها، لذا فتحت الشيخة موزة نافذة على واشنطن لتبارك هذا الاختيار وتزكيه وتدعم ابنها الصغير فى أول زيارة قام بها إلى أمريكا بعد أن تولى ولاية العهد، قيل يومها إن الشيخة تحاول أن تقدم نفسها كشيخة خليجية متحررة تخرج دون محرم ولا تضع العباءة والنقاب وهى مثال للمرأة التى يمكن أن تكون صديقاً وفياً للأمريكان والفرنسيين.
سريعاً ما جاء الرد الأمريكى جريئاً ومشجعاً أمام حزمة من الامتيازات التى لم يقدر الأمريكان على رفضها، قدمت وزوجها قاعدة عسكرية دائمة ومطاراً وخدمات لوجيستية فى الخليج لم يكن الأمريكان ليحلموا بها.
عمل النظام الأمريكى على إيلاء زيارة ابن موزة مكانة مرموقة وقوبلت فى واشنطن باهتمام خاص من قِبل أجهزة الإعلام لرغبة هذه الأجهزة فى معرفة خبايا الشيخ الصغير والدور الذى لعبه فى عملية تنحية جده الشيخ خليفة وتنحية أخويه الأكبر منه سناً من منصب ولاية العهد بل وإشرافه شخصياً على وضعهما قيد الإقامة الجبرية فى الدوحة بعد اتهامهما بالتورط فى محاولة الانقلاب التى استهدفت إرجاع جدهما الشيخ «خليفة» إلى الحكم.