المُعذّبون فى الله
اشتد غضب قريش من محمد (صلى الله عليه
وسلم) حين جهر بضلال المشركين وتهافت الأصنام. تأججت
حرائق الكراهية وبدأت
الحرب الشعواء. يرمون النبى بالتهم الباطلة، فتارة هو ساحر، وتارة شاعر،
وتارة
مجنون. يشيعونه ويستقبلونه بنظرات حامية، لو كانت النظرات تقتل
لقتلته! يرمونه بالكذب وترديد
الأساطير. يمنعونه من التبليغ برسالة ربه.
وحينما تأتى القبائل فى مواسم الحج يتبعونه للتشويش عليه، يمشى وراءه عمه
أبولهب لتكذيبه، فينصرف عنه القوم!
يلقون القاذورات أمام بابه
والأشواك فى طريقه، فإذا سجد وضعوا أمعاء الذبائح على ظهره ورأسه، وهم
يضحكون ويتمايلون من الطرب، وابنته فاطمة تبكى من القهر وهى تُزيل
القاذورات عن ظهره الشريف. ويطأ عتبة بن ربيعة رأسه- وهو ساجد- حتى تكاد
عيناه تخرجان!
أما المستضعفون من الرجال والنساء فكانوا يذيقونهم
ألوانا من العذاب والتنكيل. بلال ربطوه من عنقه بحبل وأسلموه للصبيان
يطوفون به فى الجبال، ثم يضربونه بالعصى ويطرحونه فى هجير الصحراء، فيقول:
«أحد.. أحد» حتى اشتراه أبوبكر وأعتقه.
عمار بن ياسر يعذبونه
بالرمال الساخنة ويقتلون أمه بالحراب، والجوارى اللاتى أسلمن يلفونهن فى
جلد
الإبل ويطرحونهن فى الرمضاء. وحتى حينما هاجر المستضعفون إلى الحبشة
تبعوهم ليقتلوهم، وحين لم
يلحقوا بهم عند الشاطئ، فإن الحقد العميق جعلهم
يتكلفون مشقة السفر إلى الحبشة ليوغروا صدر
ملكها عليهم. بعدها فرضوا
الحصار الشامل على المسلمين، تحالفوا على عشيرة النبى ألّا يناكحوهم ولا
يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يكلموهم أو يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا محمدا
للقتل. علّقوا الصحيفة فى جوف الكعبة وحبسوهم فى شعب أبى طالب لمدة ثلاث
سنوات.
واشتد الحصار ولم يعد المشركون يسمحون بدخول الطعام،
واضطروهم إلى أكل الأوراق والجلود، ومن بعيد تترامى أصوات النساء والصبيان
يتضاغون من الجوع. ورغم ذلك ظل الرسول يقوم بالدعوة، يخرج إلى قبائل
العرب
فى المواسم ويعرض عليهم الإسلام بحثا عن قبيلة واحدة تمنعه وهو يبلغ عن
ربه، والقبائل ترفض وتمتنع.
فى هذه الأثناء كان أبوطالب قد أمعن فى
الشيخوخة، واشتد عليه الوجع، وأسقمه الشظف والحرمان،
ورغم ذلك لم يزل يحوط
ابن أخيه ويمنعه. جاءه وفد قريش يساومونه على محمد. وإذا بمحمد يقول لهم:
«أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم!!»،
فأصابتهم الدهشة من هذه الكلمة
السحرية التى تصنع كل هذه الأعاجيب. قال أبو
جهل: «ما هى؟، وأبيك لنعطيكها وعشرة أمثالها!»، قال:
«تقولون لا إله إلا
الله وتخلعون ما تعبدون من دونه»، فرفضوا، إذ كانوا يعرفون مرامى لغتهم،
وأن «لا إله إلا الله» هى فى حقيقتها ثورة على الظلم والطغيان واستعباد
البشر.
فيما بعد.. بعد عشرين عاما كاملة، سينقلب الوضع تماما، ويدخل النبى مكة فاتحا، ترى ما الذى سيفعله وقتها بمن ظلمه وآذاه؟