في قرية ميت حواي ثورة صغيرة لم يسمع بها أحد خارج حدودها، لسبب جوهري هو أنها حدثت في مصر غير التليفزيونية التي لا ترى في الصور، لا تذكر إلا إذا حلت بها كارثة من العيار الثقيل. الذي حدث كان العكس تماما في القرية التي يسكنها نحو 40 ألف نسمة وتبعد عن القاهرة مائة كيلو متر (تابعة لمركز السنطة بمحافظة الغربية).
فقد نبهتهم ثورة 25 يناير إلى أنهم صاروا مواطنين حقا وأن القرية عادت إليهم وصارت أمانة في أعناقهم. وحين شاع ذلك الخبر فيما بينهم فإنهم تداعوا للقاء أسفر عن تشكيل جمعية للنهوض بالقرية أطلقوا عليها اسم «الملتقى الجنة». البعض أسهم فيها بماله وببعض أرضه، والبعض الآخر أسهم بسواعدهم، وفريق ثالث قدم الخبرات والأفكار.
ميلاد جديد للشعب المصري
قرروا فيما بينهم أن نظافة القرية وصيانة مرافقها مسئوليتهم وليست مسئولية الحكومة وحدها. وأن عليهم أن يستثمروا طاقات شباب القرية من خلال تأهيلهم وتدريبهم وإشراكهم في تنفيذ بعض المشروعات الصغيرة. وطرحت في هذا السياق أفكار عدة حول صناعة السجاد اليدوي وورش النجارة التي تلبى احتياجات الراغبين بأسعار زهيدة، والعناية بتربية الماشية.. إلى غير ذلك من الأفكار التي أهم ما فيها أنها عبرت عن حالة اليقظة المقترنة بالهمة التي حلت بالقرية، وروح العمل الجماعي التي تلبست أهلها. هذه الهمة التي عبر عنها أهالي ميت حواى نموذج لما يحدث في مصر منذ 25 يناير، لأن الحاصل هناك له نظيره فيما لا حصر له من القرى والمدن. وما أسمعه من أهلنا في الدلتا والصعيد، وما أتلقاه من رسائل يشهد بأن الميلاد الجديد للشعب المصري ولد رغبة عارمة لدى الجميع في النهوض بالبلد وإخراجها من حالة الجمود والموات التي رانت عليها طوال الثلاثين سنة الأخيرة. إذ صرنا نرى في ربوع مصر الآن نماذج لشبان يسعون للحفاظ على البيئة، وآخرون ينظفون الشوارع ويشتركون في دهان الأرصفة ويقيمون معارض لبيع الكتب بأسعار زهيدة في الحدائق العامة. وهى أفكار ربما بدت بسيطة ولكن أهم ما فيها أنها عاكسة لتلك الرغبة الشديدة في فعل شيء مفيد للبلد. ولا أشك في أنني لست الوحيد الذي سمع من الشباب سؤالهم أما عن الذي بوسعهم أن يفعلوه، أو عن جدوى الذي يفعلونه.
المصريون بالخارج
هذا الذى يحدث داخل مصر له مثيله بين أبناء البلد المهاجرين أو الذين يعملون فى الخارج. وقد صادفت مجموعة منهم قدم أفرادها إلى القاهرة من السعودية وبعض دول الخليج ومنهم من جاء من إيطاليا وانجلترا. بعضهم من جاء بأفكار ومشروعات يريد أن ينفذها ومنهم من جاء يسأل عما يمكن أن يفعله لأجل الوطن الذي عاد إليهم بعد طول غياب. وفيما علمت منهم فإن هناك آخرين من أمثالهم يبحثون عن كيفية المشاركة في النهوض بالبلد، ولديهم الخبرات اللازمة والتمويل الكافي. أضيف إلى ذلك الحراك «التنموي» جهد آخر يبذل في صمت، بعيدا عن الأضواء وضجيج الإعلام لتنفيذ مشروعات التنمية الذاتية التي تستنهض الهمم وتستثمر الطاقات للنهوض ببعض المحافظات التي تعانى من التخلف والفقر. اعتمادا على الخبرات والإمكانات المحلية.
قرية كفر العرب
من النماذج التي تجسد هذه الفكرة أنشطة الجمعية المصرية لتنمية المجتمعات المحلية ومشروع «مواطنون من أجل التنمية»، الذي يقدم خدماته إلى الجمعيات الأهلية خصوصا في صعيد مصر (محافظات الفيوم وبنى سويف والمنيا إضافة إلى الجيزة).
ومن أبرز ما أنجزته في هذا الصدد أنها نجحت في تنفيذ مشروع لتصنيع أعلاف الماشية محليا من البواقي الزراعية، بدلا من الاعتماد على الاستيراد المكلف من الخارج، واستخدام ذلك العلف في توفير احتياجات قرية كفر العرب بمحافظة دمياط، وهى إحدى أهم القرى التي عرفت بوفرة ثروتها الحيوانية ومن ثم إنتاج الألبان وتصنيع الأجبان. وقد أنقذ العلف المصنع محليا اقتصاد القرية، بعدما تسبب غلاء العلف المستورد في تهديد إنتاجيتها وتدهور أوضاعها، في حين دفع كثيرين إلى التخلص من ماشيتهم. هذه الخلفية كانت في ذهني حين حضرت لقاء حول الأوضاع الاقتصادية في مصر، دعا إليه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتحدث فيه اثنان من المعنين بالشأن الاقتصادي في القوات المسلحة، هما اللواء محمود محمد أنور ومحمد أمين نصر.
وقد سمعنا من الأول عرضا مستفيضا حول الأوضاع الاقتصادية الراهنة، وكان سؤاله الذي وجهه إلى الحاضرين هو: ما العمل؟. وقد لاحظت فيما سمعت من آراء أن بعض المتحدثين ركزوا على أهمية تشجيع السياح والمستثمرين. وحين جاء دوري في الكلام قلت إن ذلك مهم لا ريب، ولكن الأهم أن نعطى الأولوية لتشجيع المصريين على أن يتحولوا إلى شعب منتج وجيش من البنائين. لم أذكر ما حدث في قرية ميت حواى ولا كفر العرب، لكنى كنت أعنيهما ومعهما آلاف القرى المصرية التي باتت تتحرق شوقا للنهوض والخروج من دائرة التخلف، وتنتظر من يريد هذه الصحوة ويوظفها في الاتجاه الصحيح.