ما أخطأ فيه الأشعريون
وزائداً إلى هذا كله أن طرقهم التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع
الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر،
وأما مع الخواص فلكنوها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان، وذلك يقف عليه
بأدنى تأمل من عرف شرائط البرهان. بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية
معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيراً من الضروريات، مثل ثبوت الأعراض وتأثير
الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات والصور الجوهرية والوسائط.
ولقد بلغ تعدي نظارهم في هذا المعنى على المسلمين أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس
يعرف وجود البارئ سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم، وهم الكافرون
والضالون بالحقيقة. ومن هنا اختلفوا: فقال قوم أول الواجبات النظر، وقال قوم
الإيمان، أعني من قبل أنهم لم يعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع التي دعا
الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد. فأخطأوا، مقصد الشارع، وضلوا
وأضلوا.
عصمة الصدر الأول عن التأويل
فإن قيل: فإذا لم تكن هذه الطرق التي سلكتها الأشعرية ولا غيرهم من أهل النظر هي
الطرق المشتركة التي قصد الشارع تعليم الجمهور بها وهي التي لا يمكن تعليمهم
بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟ قلنا: هي الطرق التي ثبتت في
الكتاب العزيز فقط، فإن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة
لجميع الناس، وهذه هي الطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة. وإذا تؤمل الأمر
ظهر انه ليس يُلقى طرق مشتركة لتعليم الجمهور أفضل من الطرق المذكورة فيه. فمن
حرفها بتأويل لا يكون ظاهراً بنفسه، أو أظهر منها للجميع وذلك شيء غير موجود فقد
أبطل حكمتها وأبطل فعلها المقصود في إفادة السعادة الإنسانية. وذلك ظاهر جداً من
حال الصدر الأول، و حال من أتى بعدهم فأن الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة
والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير
أن يصرح به. وأما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم وكثر اختلافهم
وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقاً.
كيفية التوفيق بين الحكمة والشريعة
وحل هذا الشك يستدعي كلاماً طويلاً، إلا أنا ههنا نقصد للنكتة التي بها ينحل.