ظهرت في الأيام القليلة الماضية دعوة على "الفيس بوك" من خلال مجموعات تعمل على حشد الناس للذهاب لفلسطين يوم 15 مايو 2011م عبر تجميع آلاف من الشباب في البلاد المحيطة بفلسطين، مثل: مصر، وسوريا، والأردن، ولبنان، وكل بلد تدخل فلسطين من جهة وفق ترتيب معين بهدف تحرير فلسطين وحرب إسرائيل لإزالة هذا الكيان من قلب الأمة، وإعادة مقدسات المسلمين إليهم.
وهذا الموضوع أثار جدلا في الأوساط الدعوية والسياسية والثقافية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهو جدل مرشح للزيادة في الأيام القادمة مما يوجب أن يكون للإسلام فيه كلمة في ضوء الواقع الذي نحياه، وفي ضوء أهمية القضية الفلسطينية لكل مسلم.
وأود أن أقرر في البداية أن هذا موضوع كبير، وشائك، ومتعدد الجوانب، ويحتاج إلى مشاورات بين العلماء والباحثين، فهي من قضايا الأمة، وليست من قضايا الأفراد، ومن شأن قضايا الأمة أن يتشاور فيها العلماء، ويُقلِّبوا فيها وجهات النظر؛ ليهتدوا إلى أرشد الآراء وأقوم الأحكام وأصح الفتاوى.
محددات هامة
ولما كانت قضية فلسطين من قضايا الأمة، بل هي قضية القضايا العربية، وهمُّ الهموم الإسلامية، فإنه لا يليق أن ينفصل في الحديث عن هذه القضية الخطيرةِ الفقهاءُ عن أهل الخبرة من السياسيين والعسكريين فَهُم من « أهل الذكر»، الذين يستطيعون أن يُقَدِّروا الموقف والواقع، في ضوء أهمية القضية، وبدون إهمال للظرف المحلي والإقليمي والعالمي الذي تحياه أمتنا، ففي مثل هذه القضايا يجب أن تبنى فتاوى الفقهاء على تقارير الخبراء، فأحكامٌ شرعيةٌ بلا بناء على تصور لواقع صحيح من أهل الخبرة به إنما هي فتاوى ضالة مضلة؛ لأنها استُنبتت في الهواء بعيدا عن الواقع، وتقاريرُ سياسيةٌ واقعية بلا رأي فقهي يبين الحكم فيها لن تجدي كثيرًا.
وبالإضافة إلى هذه الرؤية المتكاملة من الفقهاء والخبراء ينبغي أن تكون هناك رعاية للواقع وفقهه، وهذا يكون من خلال أهل الخبرة، وأن يكون هناك نظر للمآلات التي سيتمخض عنها مثل هذا الفعل إن سلبًا أو إيجابًا، وأن يكون هناك رعاية للأوليات في ضوء فقه الواقع، وفي ضوء أهمية القضية ومحوريتها، مع رعاية السنن الجارية واستلهام دروس التاريخ.
أهمية قضية فلسطين
وفي البداية لابد أن نشير إلى أهمية القضية الفلسطينية، وهو حديث ليس القارئ في حاجة كبيرة لتقريره وإبرازه؛ إذ إن المسلمين ـ واحدًا واحدًا ـ يدركون جيدًا أهمية هذه القضية ليس على المستوى الإسلامي فقط، وإنما على المستوى الإنساني؛ فهي القضية التي حركت الأمة عبر عقود من الزمان، وأحيت معاركُها كوامنَ القوة وأمارات العافية في نفوس المسلمين والعالم شرقًا وغربًا، وهي القضية التي كتب عنها الكتاب، وقرض لها الشعراء، وألف فيها المؤلفون، وأقيمت لها الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، وهي الأرض التي استقبلت الرسالات السماوية، وتحتوي على مقدسات للمسلمين والنصارى؛ فلا غرو أن جعلها الله منبع الصراع على مر العصور، ومهوى أفئدة المسلمين على مدار التاريخ.
وقد اتفق الفقهاء على أن الجهاد يصير فرض عين إذا نزل الكفار ببلد، فيتعين على أهله قتالهم ودفعهم، فإن عجزوا لحق الفرضُ أقربَ الناس إليهم، ويرى الشافعية أن من كان دون المسافة التي يجوز فيها القصر من أهل البلدة، فيخرج الرجال والنساء والصبيان للجهاد دون إذن من يتوجب عليهم الإذن، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يُحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال([1]).
وإذا كان هذا في حق الدفاع عن أرض المسلمين بعامة، فكيف بأرض فلسطين التي هي أرض الرسالات والمقدسات ومهبط الوحي الشريف؟.
والتاريخ يحدثنا أنه لم يحتل محتلٌ أرضًا وظل فيها أبد الدهر، فكل محتل إلى زوال، وكل ظلم إلى نهاية وفناء، ولن يصح إلا الصحيح، ولن يبقى في الأرض إلا الحق وما ينفع الناس: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ". الرعد: 17.
فقه الواقع في هذه القضية
من الأهمية بمكان قبل أن يقدم المفتي على الفتوى أن ينظر في واقعها، ويدرسه دراسة جيدة حتى تنبني فتواه انبناء صحيحًا، وإلا كانت فتوى في الفضاء، كما تُستنبت البذور في الهواء.
يقول الإمام ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع"([2]).
وقال أيضًا: "والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع؛ فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم"([3]).
من أجل هذا كان لابد من الوعي بالواقع المحيط بالقضية، ومدى إمكانية إنفاذ أو إرجاء ما يدعو إليه الشباب في ضوء هذا الواقع.
يقول الواقع: إن مصر وهي أقرب البلاد إلى فلسطين ـ ولن تتحرر فلسطين بدونها إلا بصعوبة ـ تمر بفترة حرجة للغاية؛ حيث تحاول الخروج من آثار زلزال كبير أجراه القدر عليها، كما أجراه ويجريه على بلاد أخرى.
فمن الناحية السياسية لم يتشكل الواقع السياسي لمصر؛ فلم تُجرَ انتخاباتُ مجلس شعب ولا مجلس شورى ولا محليات، ولا تزال أمورها تُسيَّر بدستور مؤقت، ومجلس رئاسي مؤقت؛ فضلا عن أنها بغير رئيس منتخب من الشعب.
تقول د. هبة رءوف ـ مدرس النظرية السياسية بجامعة القاهرة ـ: "أعتقد أن الحشد الإعلامي من هؤلاء الشباب وتنظيم مؤتمر في القاهرة للتوعية بالقضية الفلسطينية وإحضار نشطاء من العالم - سياحةً وسياسةً – أهم، أما الحرب فقد يعرض مصر لمشاكل دولية وكذلك يتم استغلاله كأن مصر تهدد بالحرب على إسرائيل بعد الثورة، فالصبر والتمهل والعمل في دعم الشعب الفلسطيني والمطالبة بما نملك نحن من أوراق الآن أفضل"([4]).
ومن الناحية الاقتصادية تمر مصر بفترة عصيبة اقتصاديًّا؛ حيث تعاني مصر فقرًا ليس قليلا تمثل في ثرواتها المنهوبة، والتي أعلنت على وسائل الإعلام بما لم يشهد له التاريخ مثيلا، يقول د. أشرف دوابة ـ أستاذ الاقتصاد ـ: "والمشكلة الاقتصادية في مصر فاقت كل تصور فهي مشكلة لا ترجع إلى ندرة الموارد، وإنما ترجع في حقيقتها إلى نهب الموارد؛ نتيجة لحاجات منحرفة لفئة ضئيلة محدودة أبت إلا الجشع والطمع والتعدي على المال العام والسرقة والنهب المنظم من خلال زواج الثروة بالسلطة، وتكوين جبال من المال الحرام بلا قيود، والغنى الفاحش، والتبذير والترف والسفه بلا حدود، في الوقت نفسه الذي لا يجد نحو نصف الشعب المصري قوت يومه، ويعيشون في بحر من الحرمان والفقر والقهر على أقل من دولارين يوميًّا"([5]).
ومن الناحية الاجتماعية فلا تخفى أوضاع المجتمعات بعد الثورات من عدم استقرار وعدم هدوء، ويعيش المجتمع في حالة من قلة الأمن، حتى تتغير الأحداث وتتطور إلى الأمان والاستقرار شيئا فشيئا.
ومن الناحية العسكرية في مصر هل الجيش والمجلس الأعلى جاهز لمثل هذه الحرب؟ أم أنه مشغول ـ لفترة ما ـ بحكم مصر وتسليمها إلى اليد التي سيختارها الشعب لقيادتها؟
ثم هل تختلف حالة مصر عن حالة البلاد المرصودة لهذه الدعوة: سوريا، والأردن، ولبنان، وبخاصة سوريا؟
ثم السياق العالمي الآن والرأي العام الدولي ـ الأمريكي والأوربي ـ الذي يدعو لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 بشكل جاد، وليس كما سبق؛ حيث يهدد إسرائيل إن لم تعلن هي سيعلنها المجتمع الدولي وترتب إسرائيل حالها على هذا الوضع، وهذا لا يعني أن الرأي العام الأوربي والأمريكي أصبح عدوًّا لإسرائيل، ولكنها خطوة نوعية.
ماذا يقول فقه المآلات؟
من المحاور المهمة في أي اجتهاد أو إفتاء أن ينظر المجتهد أو المفتي إلى ما ستئول إليه فتواه، وهذا معتبر مقصود شرعًا، وقد قال الله تعالى: "وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ". الأنعام: 108. فنهى الله تعالى عن هذا السب مراعاة للمآل الذي سيؤول إليه، وهو سب الله تعالى وجل.
وعن عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي (يعني عائشة) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة. فألزقتها بالأرض. وجعلت لها بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا. وزدت فيها ستة أذرع من الحجر. فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة"([6]). فراعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ما يؤول إليه هدم الكعبة، وسبب ذلك أن القوم حديثو عهد بالإسلام.
ولقد تنبه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات وأهمية اعتبارها، فقال في كلام مفصَّل منضبط: "النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ.. ولكنّ له مآلًا على خلاف ما قُصِدَ فيه. وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلًا على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة"([7]).
وإذا كان ما سبق تقريره هو الواقع في القضية فإن المآلات التي ستنبني حتمًا على هذا الواقع ستكون غير مبشرة بناء على قدرات هذا الشباب وإمكاناته.
ماذا يملك شباب "الفيس بوك" من تدريب وتأهيل وأسلحة في مواجهة إسرائيل، ألم يقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الترمذي بسنده عن أنس بن مالك يقول: قال رجل يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ ـ يعني ناقته ـ قال: "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ"([8]).
وماذا يمكن أن يحقق هذا الفعل، بل ماذا يمكن أن يؤول إليه؟ من الوارد جدًّا أن يحقق مكاسب في الحشد والرأي العام، وأحاديث في الإعلام هنا وهناك، لكن ماذا سيحقق من مكاسب، وماذا سيترتب عليه من مفاسد ومشكلات دولية ـ في هذا الظرف بالطبع ـ على مستوى مصر ومستوى البلاد المرصودة، ومستوى القضية نفسها؟ وهذا ما يحسم فيه القولَ فقهُ الموازنات.
ليس هذا تقليلا من قدر الشباب الذي قامت على كواهله الثورات اليوم، لكن الثورات الشعبية مع الأنظمة الحاكمة شيء، ومواجهة إسرائيل في حرب خارجية مسلحة شيء آخر!
ماذا يقول فقه الأولويات؟
فقه الأولويات يبين مراتب الأعمال، وأيها يجب أن يقدم، وأيها يجب أن يؤخر، ويبين فقه النسب بين الأحكام، أيها واجب، وأيها مستحب، وأيها محرم، أيها يستحق الاهتمام، وأيها لا يستحق، أيها حان وقته، وأيها يمكن تأخير الحديث عنه؛ ليس تقليلا من شأنه، وإنما مراعاة لواجب الوقت، وهكذا.
وما أحوج أمتنا اليوم إلى هذا النوع من الفقه، بعد أن أصبحت تكبر الصغير، وتصغر الكبير، وتهون العظيم، وتعظم الحقير، وتقدم ما من حقه التأخير، وتؤخر ما من حقه التقديم؛ فاختل فيها فقه مراتب الأعمال والنسب بينها اختلالا كبيرا.
وفي القضية التي نحن بصدد الحديث عنها نحتاج إلى تحكيم هذا الفقه؛ هل الأولى الآن بناء الأوطان العربية بعد أن فرغها من مضمونها حكامٌ طغاة مستبدون: أخلاقيًّا وسلوكيًّا وحضاريًّا، وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ومعرفيًّا، ويعاد تشكيل وبناء مؤسساتها التربوية والتعليمية والنقابية والمهنية، أم نترك البيت خرابًا يبابًا، ونذهب لمعركة بغير عدد ولا عتاد؟ هل الأولى الآن التحريك لإزاحة الطواغيت العربية لاستكمال الدائرة وتحقيق الوحدة الشريفة الطاهرة أم التحريك لحرب إسرائيل بلا عدد ولا إعداد ولا منهجية؟.
إن مصر الآن ـ وما شابهها ـ أشبه بالمريض الذي أجرى جراحة في بطنه، وأقتابه مندلقة أمامه، هل يمكن أن يمسك بأقتاب بطنه بيد، ويحارب باليد الأخرى؟.
إن بناء البيت من الداخل، وإعداد العدة التي أمرنا الله بها، والأخذ بالأسباب الذي هو دِينٌ عندنا، وتقوية هذا البيت هو الأولوية الكبرى التي يجب العمل عليها، ويحظر أي شيء يصرف عنها حتى لو كان تحرير القدس؛ لأن القدس لن تتحرر بغير إعداد ولا بغير قوة، وإسرائيل لم تحتل أرضنا إلا لضعفنا وتخاذلنا على مدى عقود من الزمان، كما أن البناء البيتي الداخلي هو الضمانة الحقيقية لتحرير إرادتنا وتطهير بلادنا، ومن ثم تحرير مقدساتنا في كل مكان.
الحكم الشرعي بناء على ما سبق
يتبين مما سبق من تقرير للواقع وتحكيم للمآلات والموازنات والأولويات أن هذه الدعوة ـ على أهميتها وضرورتها وحتميتها في القريب العاجل ـ يجب شرعًا أن تُرجأ قليلا؛ فمصر اليوم ـ وما على شاكلتها من بلاد ـ لها نظام يرجى له الاستقرار والسيطرة على مسار الأمور؛ فلا يصح العمل على إضعافه وتجاوزه؛ لأن في هذا إضعافًا لكلمة المسلمين، وتمكينًا للأعداء منهم.
وصلاح الدين لم يبدأ محاربة الصليبيين ـ على سبيل المثال ـ إلا بعد أن أعد عدته واطمأن إلى قدرته على المواجهة، والله تعالى يقول: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ". الأنفال: 60. فهل ما يملكه هذا الشباب يحقق المقصود من دعوته، ويحقق إرهاب العدو وإزالته، وتحرير الأرض؟ إننا الآن في مرحلة إعداد لا بد أن تأخذ حقها كاملاً قبل الدخول في أي مواجهات قد لا تكون لدينا القدرة على تحمل نتائجها الآن، وحين تأخذ هذه المرحلة حقها أو معظم حقها ـ يُرجع في ذلك للخبراء ـ ستجد الناس ينفرون إلى فلسطين كما ينفر الحجاج إلى شعائرهم في فريضة الحج.
ثم إن أمر الجهاد القتالي وإعلان قراره موكول إلى الإمام وليس إلى آحاد الناس، ولو أن كل واحد افتتح جبهة وجاهد فيها لانفرط عقد أمر الأمة، وإعلان قرار الجهاد القتالي من الأمور الجامعة التي لا يجوز الافتئات فيها على من أنيط به الأمر، والله تعالى يقول: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ". النور: 62.
ويقول ابن قدامة: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك"([9]).
وقال الإمام ابن تيمية: "والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور"([10]).
وكان الحسن البصري يقول: "أربعة من الإسلام إلى السلطان: الحكم، والفيء، والجمعة، والجهاد"([11]).
سيقول لك البعض: أي إمام تعني؟
وهل رؤساؤنا اليوم ولاة لأمورنا؟ وهل هم ولاة شرعيون اختارهم الشعب بإرادته؟.
وأقول: إننا مقبلون على مرحلة مختلفة ثارت وتثور فيها الشعوب على حكامها، ستتمخض عن رؤية جديدة، وحياة سياسية جديدة، وعلاقة بين الحاكم والمحكوم جديدة؛ يختار فيها الشعب حاكمه، ويحاسبه، ويعاقبه، ويعزله إن لزم الأمر، وسنشهد ميلادها بعد شهور قليلة إن شاء الله.
وسيقول بعضٌ آخر: إن الشباب هم قادة المرحلة، ويجب على الجميع أن يستجيب لهم، ويأتمر بأمرهم، ويوفر لهم ما يشاءون، فقد سئمنا من حكمة الشيوخ، ومن الحديث في الموازنات والمآلات، فهل كان أحد يتوقع تلك الثورات التي جرت في بلاد عربية، وهل لو حكَّمنا المآلات والأولويات كانت ستنفعنا، وهل كان أحد يحلم أن ينتهي الحال بها إلى ما انتهت إليه، أو تستقر الأمور إلى ما استقرت عليه؟
وأقول: إن الشباب ـ بالفعل ـ في كل ثورة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها، وفي كل أمة عماد نهضتها، لكن ينبغي ألا يبالغ الشباب في دوره إلى هذا الحد، فإذا كانت الثورات أطلق شرارتها الشباب فإنها لم تلبث أن تحولت إلى ثورات شعبية وطنية حقيقية جامعة، وليس معنى أن يطلق الشباب في أمتنا العربية شرارة الثورات أن يتعاملوا بهذه الطريقة في الافتئات على الواقع، وتجاوز النظر فيه وفي عواقبه، أو يقوم بدور لم يعد له ولم يتأهل له، فتقدير دور الشباب في كل عصر وفي كل حركة يجب أن يأتي في إطار رعاية حقوق الجميع وعدم تجاوز الحدود.
وصحيح أن أحدًا لم يكن يتوقع أو يحلم بما جرى، حتى الشباب أنفسهم، وهذا من قدر الله الذي يجريه ويقود إليه الناس، ويهيئ له الأسباب، ومن هنا فإن حُكمنا على هذه الدعوة بالتأجيل قليلا هو في ضوء الإدراك البشري القاصر الذي يرى بعين البشر، ويفكر بعقل البشر، أما إرادة الله تعالى فلها شأن آخر، وإذا أراد الله شيئا هيأ له الأسباب، وأجرى به القدر، "وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ". يوسف: 81.
الواجب علينا في هذه المرحلة
هل معنى ذلك أن يستكين هذا الشباب؟
أو أن يضع يده على خده بائسًا ومستسلمًا للواقع، وهل يعني الحكم الشرعي على هذه الدعوة بالتأجيل قليلاً ألا توجد أدوار أخرى يلعبها الشباب، وتلعبها الأمة كلها؟.
إن في وسع هذا الشباب الواعد الطاهر الشريف المتحرق على واقع أمته أن يقوم للقضية الفلسطينية في هذه الفترة بواجبات عديدة، أراها أوجب الآن، وأكثر إفادة وجدوى وعملية للقضية الفلسطينية، ومن ذلك:
1- حشد الرأي العام لفتح معبر رفح من الجانبين بشكل دائم؛ لتكون حركته طبيعية دخولا وخروجًا، وبخاصة بعد التطورات التي جرت في مصر.
2- حشد أنصار للقضية الفلسطينية، والتواصل مع الشرفاء والأحرار حول العالم والتفاهم معهم على مساحات وقواسم مشتركة لخدمة القضية، وبكل لغات العالم.
3- حشد الرأي العام العالمي والضغط عليه لحق العودة وإعادة المهجرين إلى أراضيهم؛ فهذا حق إنساني لا يكابر فيه أحد، ولا يختلف عليه أحد.
4- عقد مؤتمرات حاشدة في كل بلد، وبخاصة البلاد التي تحررت من طواغيتها وعلى رأسها مصر ـ للتوعية بالقضية، وبالواجبات التي يمكن أن تقوم بها الشعوب العربية والمسلمة، والأحرار والشرفاء في كل مكان، وما أكثرهم.
5- مساعدة الفلسطينيين إعلاميًّا للهبة في وجه السلطة الفاسدة والنظم المتواطئة لتوحيد الجبهات الداخلية مع الخارجية.
6- إرسال رسائل للدول المتعاونة مع القضية، مثل: تركيا، وقطر، تعبر عن الشكر والامتنان لمواقفها الشريفة مع القضية، وتحثها على عمل المزيد: سياسيًا، ودبلوماسيًّا، واقتصاديًّا، وإغاثيًّا، وغير ذلك.
7- الضغط إعلاميًّا على المؤسسات الدولية والهيئات العالمية للتسريع في إقامة دولة فلسطينية على حدود 67.
8- الدعوة لتسيير قوافل إغاثية برية من معبر رفح، وبخاصة بعدما تم تسهيل إدخال مواد الإغاثة منه، وقوافل أخرى بحرية تنطلق من أوربا وتركيا لفك الحصار الظالم على هذا الشعب الذي طال حصاره وتنوعت عذاباته طيلة السنوات الماضية؛ تأديبًا له على اختياره في انتخابات شهد العالم كله بنزاهتها وشفافيتها.
9- الدعوة إلى عمل توأمة بين جامعات البلاد العربية وجامعات فلسطين للتعاون الجامعي والدراسي بين الطلاب.
10- حث العلماء والدعاة والأئمة والخطباء أن يهتموا بهذه الواجبات، وأن يوفروا لهم مواد علمية صالحة لتحقيق الأهداف المرصودة.
إن في إمكان الشباب الحر أن يقدم الكثير لخدمة أمته، ولخدمة القضية الفلسطينية في ضوء الاستجابة لنداء العقل، وتقدير ظروف الواقع، وأخذًا بما تكون له نتيجته العملية وأثره الفاعل على المستويات جميعًا. والله تعالى أعلم.
([1]) انظر: أحكام القرآن للجصاص: 4/ 312. دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة: 10/361. دار الفكر، والفتاوى المصرية لابن تيمية: 4/508، والمحلى: 7/292، والإقناع للشربيني: 2/510.
([2]) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/95. مكتبة الكليات الأزهرية.
([3]) السابق: 4/241.
([4]) من استشارة خاصة أرسلتْها لي د. هبة رءوف.
([5])أزمة الاقتصاد المصري.. رؤية للعلاج. د. أشرف دوابه. مقال بجريدة المصريون الإليكترونية. بتاريخ: 27-03-2011م، وقد استعرض في هذا المقال وسائل واقعية للإصلاح الاقتصادي.
([6])صحيح مسلم: كتاب الحج. باب نقض الكعبة وبنائها.
([7]) الموافقات: 5/440. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
([8])أخرجه الترمذي برقم : 2517، والبيهقي في الأدب برقم: 953، والشعب برقم: 1212، وقال الترمذي: "حديث غريب". وله شاهد من حديث عمرو بن أمية: أخرجه البيهقي في الشعب حديث: 1210، وابن حبان في صحيحه برقم: 729، وإسناده حسن، وبه يكون الحديث حسنًا.
([9]) المغني: 9/166.
([10]) منهاج السنة النبوية: 6/118. تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة. الطبعة الأولى. 1406هـ.
([11])عيون الأخبار: 1/2. ابن قتيبة الدينوري. طبعة دار الكتب. القاهرة. 1973م.