دخل خافضا الرأس في تواضع جم، حتى كادت لحيته تصل سرج ناقته الليفي البسيط، وقد أردف خلفه مولاه أسامة، وقاد ناقته "القصواء" عبد أسود طالما ذاق العذاب في تلك الصحراء، وفمه الشريف لا يتوقف عن قراءة سورة "الفتح" ... حتى طاف بالبيت سبعاً وهو يشير بقضيب في يده إلى ما يقرب من أربعمائة صنم قد أحاطت بالبيت فتنكب واحدة واحدة على وجوهها حين يقول: (جاء الحق وزهق الباطل ... إن الباطل كان زهوقاً).
أما أصحابه فكانوا كمثله.. تفضح سرائرهم كلمات أفواههم وهم يرددون نشيدهم الخالد: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله .. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا.. وسبحان الله بكرة وأصيلا.. لا إله إلا الله وحده.. صدق وعده ونصر عبده.. وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.. لا إله إلا الله.. ولا نعبد إلا إياه.. مخلصين له الدين ولو كره الكافرون).
هل عشتم معي أجواء يوم "الفتح الأكبر"؟ هل تواصلت قلوبكم بقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه في هذا اليوم؟ ... لو فعلتم لرأيتم العجب العجاب من قلوب اتصلت بربها فسجدت له وهي سائرة في موكب النصر الخالد، لم تبطرها النعمة، ولم يأخذها الكبر أو تخدعها الخيلاء.. إنها في عبادة حتى في يوم النصر والظفر.
الحق أني أردت أن أنقل لكم هذا المشهد من سيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم وصحبه في هذه الأيام التي نعيش فيها جميعاً أحداثاً لم يعشها أحد، ولم يتوقعها أحد، ولم تخطر يوماً ببال أحد.. نصر للحق أي نصر، ودحر للباطل والظلم.. عزة تلف الأحرار الثائرين، وذلة تغشى الظالمين المفسدين.. فتهاوت أصنام الباطل وسط هتاف محمد الخالد: (جاء الحق وزهق الباطل.. إن الباطل كان زهوقاً).. أجواء كأجوائهم.. فهل قلوبنا كقلوبهم؟
قلوب الصحابة!
هل تشبعت قلوبنا بعبادة التفويض فرأت يد الله هي الفاعلة، ولم تر يداً أخرى تشركها معها لحظة من الزمن.. فتحركت ألسنتنا ترد الفضل كله لله، وتحكي كيف رعى ربنا ثورتنا فأنبتها، وكيف رد سهام الظالمين إلى نحورهم من غير حول منا ولا قوة.
هل مارست قلوبنا عبادة الشكر فردت النعمة إلى المنعم، ولم تصرفها إلى مخلوق علا أو سفل.. فلهجت ألسنتا بشكره، وتحركت جوارحنا في حمده، واستشعرت أرواحنا منته وفضله.
هل انشغلت قلوبنا بعبادة الإخلاص فعلمت أنه سر نجاحنا، وسبب تأيد الله لنا، إخلاص لله وحده، وتجرد للوطن والأمة دون النفس والشهوة.. فانطلقت أعمالنا بعد من هذه الأرض الخصبة، لا ترى إلا ربها في أعمالها، ولا ترعى إلا وطنها وأمتها.
هل استشعرت قلوبنا عبادة التعظيم للرب والتمجيد له فرأت ما دونه كالذر لا حول له ولا قوة.. رأت ذلك في تهاوي الباطل الذي انتفش وبدا كأنه خالد، فإذا به يسقط كأوراق الخريف أمام شعب أعزل لا يملك إلا الكلمة.. فعادت ألسنتنا تلهج بالثناء على الواحد القهار الغالب العزيز المتجبر .. ولفتننا منه الخشية تلو الخشية.
هل خشعت قلوبنا لعبادة الذلة لله والتواضع له فلم يداخلنا كبر، أو يخالطنا عجب بالنفس ... فخفضنا جناحنا للمؤمنين، وتواضعنا للضعفاء والمساكين، وكنا بحق كما وصف رب العالمين: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين".
هل جذبت قلوبنا عبادة الزهد فلم نطمع في مغنم، ولم ننافس على مطمع، ولم نلهث وراء مصلحة شخصية أو منفعة دنيوية ... فكنا كمن وصفهم الواصفون: "يزيدون عند المغرم، ويقلون عند المغنم".
هل تشربت قلوبنا بعبادة الثقة بالله وبشريعته ومنهجه بعدما رأيناه ينتصر كما وعدنا، ويظهر أمام أعيننا على الدين كله .. فازدادت عزائمنا لطاعة ربنا، وخدمة ديننا، والعمل على نهجنا وسبيلنا .. فانطلقنا للعمل لا نلوي على شيء.
هل دأبت قلوبنا على عبادة التفكر والاعتبار فرأت مآل الظالمين وعاقبة البغي والطغيان.. فامتنعت جوارحنا عن الظلم بكل أشكاله، من ظلم النفس إلى ظلم الغير، بل اصطحبنا العدل والقسط حتى مع العدو الذي نكره.
هل ملأت قلوبنا عبادة الثبات على العهد بالعمل والجهاد في سبيل الله، بالنفس والمال والكلمة وكل ما نملك .. فكنا كما أرادنا ربنا: "الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر".
هل عاشت قلوبنا مع عبادة الطمع فيما عند الله .. فقد أعطانا أجرنا العاجل، فطمعنا في الأجر الآجل الذي وعدنا.. قال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين)