هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ويعرف في الغرب باسم Rhazes ويلقب بجالينوس العرب. من أشهر واعظم الأطباء في تاريخ الحضارة العربية الاسلامية كما يجمع على ذلك المؤرخون الى جانب كونه عالم كيمياء وفيلسوفا ورائد المنهج التجريبي في البحث العلمي. وكان واسع الاطلاع إلى درجة الإحاطة بكل مجالات العلوم والفنون والمعارف. وقد وصفه ابن خلكان بأنه «كان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر، وكان متقناً لهذه الصناعة، حاذقاً فيها، عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشد إليه الرحال في أخذها عنه».
ولد الرازي في مدينة الري جنوب العاصمة الايرانية الحالية طهران حوالي سنة 251 هجري (865 للميلاد). درس الرياضيات والفلك والفلسفة والكيمياء والمنطق والأدب. وبدأ في دراسة الطب في بغداد بعد أن تجاوز الأربعين من عمره على يد إسحاق بن حنين، الذي كان متضلعاً في الطب اليوناني والفارسي والهندي. وبفضل نبوغه السريع في هذا المجال أصبح من بين اشهر أطباء بغداد. وكانت للرازي قصة مشهورة في بناء مستشفى بغداد، ويقول ابن ابي اصيبعة في ذلك «إن الرازي كان في جملة من اجتمع على بناء هذا البيمارستان (المستشفى) العضدي فيها اللحم وإن عضد الدولة استشاره في الموضع الذي يجب أن يبنى فيه المارستان وإن الرازي أمر بعض الغلمان أن يعلقوا في كل ناحية من جانبي بغداد شقة لحم ثم اعتبر التي لم يتغير فيها اللحم ولم يسهك فيها بسرعة فأشار بأن يبنى في تلك الناحية وهو الموضع الذي بني فيه البيمارستان». وللدلالة على مكانة الرازي بين الأطباء في ذلك الزمان يضيف الكاتب في «طبقات الأطباء»: «إن عضد الدولة لما بنى البيمارستان العضدي المنسوب إليه قصد أن يكون فيه جماعة من الأطباء وأعيانهم فأمر أن يذكروا له الأطباء المشهورين حينئذ ببغداد وأعمالها فكانوا متوافرين على المائة فاختار منهم نحو خمسين بحسب ما علم من جودة أحوالهم وتمهرهم في صناعة الطب فكان الرازي منهم ثم إنه اقتصر من هؤلاء أيضاً على عشرة فكان الرازي منهم ثم اختار من العشرة ثلاثة فكان الرازي أحدهم ثم إنه ميز فيما بينهم فبان له أن الرازي أفضلهم فجعله ساعور –رئيس- البيمارستان العضدي».
ويقول خير الدين الزركلي أن الرازي «كان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذه ، ودونهم تلاميذهم ، ودونهم تلاميذ أخر ، فيجيء المريض فيذكر مرضه لأول من يلقاه ، فان كان عندهم علم وإلا تعداهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي في ذلك».
إسهاماته
تتنوع إسهامات الرازي في الطب منها اهتمامه بالملاحظات السريرية التي تتعلق بدراسة تطور المرض مع العلاج المستعمل، وتطور حالة المريض ونتيجة العلاج. كما أنه من رواد الاهتمام بالأحوال النفسية في تشخيص الأمراض، وكان يرى أن بعض الأمراض الباطنية تكون ناتجة بالدرجة الأولى عن أسباب نفسية. ويعتبر تشخيص مرض الجدري ومرض الحصبة من أعظم منجزات الرازي الطبية، فقد وصف المرضين وصفاً دقيقاً، خاصة فيما يتعلق بأعراضهما الأولية وطريقة علاجهما. وكان يؤكد على أهمية الممارسة والخبرة والتجربة في علاج المرضى. وقد سبق الرازي علماء العصر الحديث في تجربة العقاقير الجديدة على الحيوان قبل أن يصفها للمرضى. كما كانت له ابتكارات في أمراض النساء والولادة وفي الأمراض التناسلية وجراحة العيون، وكان من أوائل الذين طبقوا معلوماتهم في الكيمياء على الطب، وممن ينسبون شفاء المريض إلى تفاعل كيماوي في جسمه.
********
لعل الرازي هو أول طبيب في العالم يستخدم المنهج التجريبي من خلال إجراء تجاربه على الحيوانات، وخاصةً القرود، لاختبار طرق العلاج الجديدة قبل أن يُجْرِيَها على الإنسان، وهو منهج علمي رائع لم يُقِرَّه العالَم إلاَّ منذ فترة وجيزة، ففي منهجه الذي سار عليه تراه يقول: «عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة مع النظريَّة السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظريات السائدة تأييدًا لمشاهير العلماء»! فهو يقرِّر أن الجميع قد ينبهرون بآراء العلماء المشهورين الكبار، ويتوقَّفون عند نظرياتهم، إلاَّ أن التجرِبة أحيانًا ما تتعارض مع النظرية، وهنا يجب علينا رفض النظرية ـ وإن كانت لمشاهير العلماء ـ وقَبول التجرِبة والواقعة، والبدء في تحليلها والاستفادة منها.
مؤلفاته
يذكر إبن أبي أصيبعة أن مؤلفات أبي بكر الرازي تزيد عن المائتين والعشرين مؤلفاً، لكن أغلبها ضاع ولم يبق منها إلا القليل. وأشهر مؤلفاته كتاب «الحاوي» في الطب وهو أكبر موسوعة طبية عربية، جمع فيها الرازي، مقتطفات أخذها عن الأطباء الإغريق والعرب، وأضاف إليها النتائج التي توصل إليها من تجاربه وارائه الخاصة. وقد ترجمه إلى اللاتينية الطبيب «فرج بن سالم» بأمر من شارل الأول ملك صقلية (سنة 1279م)، واستبدلت بكلمة «الحاوي» ومقابلها باليونانية (Continens) وترجم مرات عديدة في أوروبا حتى سنة 1542م. واعتمد عليه كبار علماء أوروبا، وأخذوا منه الشيء الكثير، وبقي مرجعهم في مدارسهم وجامعاتهم حتى القرن السادس عشر ميلادي. ومن بين كتبه كذلك «كتاب الجدري والحصبة» الذي يشتمل على صورة مفصلة ودقيقة عن هذين المرضين وعن طرق علاجهما. وقد ترجم إلى اللاتينية بالبندقية سنة 1565م، ثم ترجم إلى عدة لغات أوروبية، ونشر في أوروبا أربعين مرة ما بين سنتي 1498م و1866م. كما ألف الرازي كتاب «طب الفقراء» وهو عبارة عن قاموس شعبي يصف فيه كل الأمراض وظواهرها، وطرق علاجها، بالأغذية الرخيصة بدلاً من شراء الأدوية المرتفعة الثمن والتراكيب النادرة. ومن أشهر مؤلفاته في الكيمياء كتاب : «الأسرار في الكيمياء» ويصف الرازي فيه الطريقة التي يتبعها في القيام بتجاربه الكيماوية، وكيفية تحضير المواد الكيماوية، وكيفية استعمالها كما يصف الآلات والأدوات التي كان يستعملها.
ولم يقتصر الرازي على التأليف والابداع في مجالي الطب والكيمياء، بل تجاوزهما الى العديد من المجالات الأخرى كالفلك والرياضيات والفيزياء والمنطق والفلسفة والعلوم الشرعية. ولعله من المهم الإشارة الى كتاب الرازي في مجال علم الفلك «هيأة العالم» وقد برهن الرازي فيه «على أن الأرض كروية تدور حول محورين، وبأن الشمس أكبر حجماً من الأرض والقمر أصغر حجماً منها». وقد سبق بذلك العالم الايطالي غاليلي بسبعة قرون في اثبات حقيقة أن الأرض تدور حول نفسها. وإن تعرض غاليلي الى المحاكمة والسجن بسبب نظريته العلمية تلك، فإن الرازي وغيره من علماء الأمة لم يتعرضوا لمثل ذلك بسبب الموقف المنفتح للحضارة العربية الاسلامية على العلوم وتشجيعها على طلب العلم والمعرفة.
وكانت وفاة ابي بكر الرازي حوالي سنة 320 هجري الموافق لسنة 931 ميلادي. وقد ترك العديد من تلاميذه الذين نبغوا من بعده وساهموا في التعريف بكتبه ومؤلفاته وفي حفظها.