غرد الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي، الأربعاء، تغريدة خطيرة في تاريخ الثورة المصرية، حيث كتب في حسابه الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي: "اليوم الخميس 23 نوفمبر عام 2012 البداية الحقيقية للقصاص لدماء الشهداء، وبداية الوفاء بأمانة للثورة"، وأعقب الرئيس تغريدته بإصدار إعلان دستوري جديد، وقع على مسامع المصريين وقع الرصاص الخارق الحارق، أملا أن يكون من أنواع الضربات الساحقة التي لا تصد ولا ترد، في بحر مصري لجي متلاطم الأمواج.
لقد تضمن الإعلان الدستوري المكمل أمس، جملة من القرارات والقوانين الاستثنائية، والتي تهدف وفقا لمصدر الإعلان إلى حماية مكتسبات ثورة 25 يناير المصرية، وفور صدور الإعلان انقسم المصريون كعادتهم في مثل هذه الأحوال إلى مرحب مهلل، وإلى رافض محذر.
وبرؤية دستورية تستند على الحقائق الدستورية، نعرض في دراستنا المقتضبة لأهم المسائل الواردة بالإعلان، والتي باعدت الشقة بين الفريقين المتنازعين: أنصار الرئيس وخصومه.
سلطة الرئيس في إصدار إعلانات دستورية
لا يختلف اثنان عن الأسلوب الانفرادي غير الديمقراطي التي صدر به الإعلان الدستوري المكمل المصري، حتى ولو سعى الرئيس لاحقا إلى تدارك الأمر بعرض ما صدر على الشعب لاستفتائه.
فالقواعد الدستورية لا تلغي أو تعدل إلا بقواعد دستورية أخرى، وهذه نتيجة طبيعية قانونية تترتب على مبدأ سمو الدستور، فالقرارات التي صدرت أمس عن رئيس الجمهورية، وسابقتها التي قضت بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل، لا تعدو إلا أن تكون قرارات تنفيذية تخضع لرقابة القضاء، سواء الإداري أو الدستوري.
لقد سبق أن حسمت المحكمة الدستورية العليا في مصر، مسألة دستورية مهمة متعلقة بشكل مباشر بقرارات الرئيس الأخيرة أمس، وذلك في حكمها الصادر في 21 يونيو عام 1986 حيث قررت ( إن مرتبة النصوص الدستورية لا يجوز تعديلها إلا وفقا للإجراءات الخاصة المنصوص عليها في المادة 189 من الدستور).
إن ما صدر عن الرئيس المصري " قسرا " على الشعب، لا يعدو إلا أن يكون عملا ناقصا أحاديا و بالتالي فإلزاميته لا تعود إلا على صاحبه ولا تتعداه إلى الغير، وهذه مسألة أولية وجب التعرض لها قبل أن نتناول أهم المسائل الدستورية الأخرى.
تحصين القرارات وتقويض المؤسسات
حصن الإعلان الدستوري المثير للجدل، كافة القرارات التي صدرت وتصدر عن رئيس الجمهورية في مصر ضد أي طعن فيها أمام أية محكمة أو هيئة قضائية في البلاد، وذلك بأثر رجعي أي منذ تولي الرئيس سدة الحكم في البلاد، ما يعني أن قرارات الرئيس وحتى إصدار الدستور الدائم المرتقب للبلاد تكون نهائية نافذة مبرمة وذات حجية مطلقة، وهذا يعني انقضاء أية سلطة للمحكمة الدستورية العليا في رقابة دستورية هذه القرارات التي صدرت عن رئيس الجمهورية، وهي السلطة التي استمدتها المحكمة - دون غيرها- بموجب الدستور الدائم المجمد عام 1971، والإعلان الدستوري الصادر في مارس 2011 ، والقانون الأساسي للمحكمة الدستورية العليا ذاتها.
لقد أثار ذلك التحصين الرئاسي التأسيسي الغضب والصدمة لدى معارضي الرئيس المصري من جميع التيارات، ما جعلهم يتهمون الرئيس بأنه تدرع بحصن الإعلان الدستوري، وتشبث بنظرية الحق الإلهي، ووصفوه بالأوصاف التي كان يخلعها الأباطرة و الملوك في أوربا في عصورها الوسطي : بأن الملك لا يخطئ، والمقولة الشهيرة للملك الفرنسي لويس الثالث عشر " الدولة أنا وأنا الدولة".
لقد كانت حجة هؤلاء الذين أنكروا على الرئيس هذه السلطات ، أن الرئيس لا يستطيع أن يخرج عن الشرعية ويهدم دولة القانون وينحرف عن الحكم الرشيد، و أن الرئيس ، و إن كان لم يمارس سلطاته التشريعية إلا في أضيق الحدود ، فانه أيضا لا يستطيع أن يمارس سلطاته التنفيذية و التشريعية دون رقيب أو حسيب ، فكافة السلطات و الهيئات العامة في البلاد لا تمتلك سلطاتها و إنما تمارسها بموجب الدستور.
فوجود السلطة التشريعية إلي جانب السلطة التنفيذية لا يؤذن لثمة حرية، فمن المؤكد أن المآل الوحيد لتركيز الوظائف والسلطات في يد هيئة واحدة هوا لاستبداد والطغيان، فالسلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وحتى لا تقع الإساءة بالسلطة، يتحتم أن توقف السلطة وتحد من افتئاتها سلطة أخرى.
لقد دون الفقيه الفرنسي "مونتسيكيو " هذه المبادئ الدستورية الراسخة في كتابه " روح الشرائع " منذ قرون خلت بمداد من ذهب ، وأصبح الفصل المرن لا المطلق بين السلطات هو الأساس الدستوري الذي تستند عليه كافة النظم الديمقراطية في العالم، والذي يرخص للسلطة القضائية أن تراقب كافة التشريعات والقوانين واللوائح والقرارات التي تصدر عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
أما الأنصار من مؤيدي الرئيس فقد باركوا هذه الإجراءات بزعم أن الظرف الثوري الاستثنائي الذي تمر به البلاد، هو الذي استدعي الرئيس أن يقوم بإصدار هذه الحزمة من القرارات ،كي يحفظ للبلاد أمنها ويصون نظامها العام، ويحافظ على مكتسبات الثورة وأن البلاد تجابه محنة مستجدة تستلزم مثل هذه الإجراءات الاستثنائية.
يؤكد أيضا أنصار الرئيس أنه وفقا لنظرية الظروف الاستثنائية : فان الظروف الخطيرة الشاذة، التي تعصف بأمن البلاد و تعرض كيان الأمة للزوال ، تعتبر التدابير الإدارية الخارقة للقواعد القانونية العادية و غير الشرعية في الظروف العادية، شرعية في بعض الظروف ، و ذلك لأنها تبدو حينذاك ضرورية لتأمين النظام العام ،و حسن سير المرافق العامة.
واقع الأمر ، أنه لا يستطيع أي أمين أن ينكر نظرية الظروف الاستثنائية التي تفضي إلي تولد ما يعرف "بالشرعية الاستثنائية"، بيد أن الفقه الدستوري يكاد يجمع على أن هناك ثمة شروط يستلزم وجودها حتى يتم إنفاذ هذه النظرية : فيجب أن تكون لظروف الزمان و المكان صفة استثنائية حقيقية و ظاهرة ، و يجب أن تكون التدابير المتخذة متناسبة كليا مع حجم الهدف المطلوب تحقيقه ، و يجب أن يكون الهدف الذي اتخذت لأجله هذه التدابير مهما ، بيد أن السلطات الواسعة التي تمنحها الظروف الاستثنائية للسلطة التنفيذية، يجب أن يقابلها من جهة أخرى، رقابة محكمة من القضاء.
إن اختصاصات المجالس و المحاكم الدستورية في سائر الأنظمة الديمقراطية في العالم يرقي إلي المرتبة الدستورية ، و أن سلطة هذه الهيئات الدستورية الواردة و المحفوظة في الدساتير يستحيل المساس بها إلا بقانون دستوري ، أي بنص تشريعي يسلك مسلك تعديل الدستور كما هو منصوص عليه في الدستور ذاته، و
أن اختصاص المحكمة الدستورية في مصر ليس اختصاصا محصنا فقط لأنه منصوص عليه في القانون الاسمي - الدستور - بل لان المحكمة حين تمارس رقابتها الدستورية ...... إنما تساهم بشكل و حاسم في استخراج التعبير الأمثل، و الأدق، و الأصح عن إرادة الشعب الذي هو مصدر السلطات و صاحب السيادة في النظم الديمقراطية.
إن المشرع الدستوري - في سائر أنظمة العالم السياسية - عندما نص على مبدأ الفصل بين السلطات، هدف من خلال ذلك إلي تفادي الوقوع في المحظور الأخطر المتمثل في تعطيل عمل سلطة دستورية مستقلة بفعل سلطة دستورية أخرى خارج الأطر الدستورية.
إن قيام رئيس الجمهورية في مصر - وفقا لإجماع الفقه و القضاء الدستوري - دون إجازة دستورية بكف يد المحكمة الدستورية العليا عن ممارسها ولايتها القضائية الموكولة إليه حصرا في مصر ، تحت أية ذريعة كانت ، إنما يقع باطلا بطلانا كليا لانه يؤدي الى طغيان سلطة دستورية على أخرى، و تعطيل عمل سلطة دستورية مستقلة بفعل سلطة دستورية أخرى.
لقد سبق و أن قضي المجلس الدستوري اللبناني في قراره رقم 1/ 2005 بتاريخ 6/8/2005 :" أن بموجب مبدأ الفصل بين السلطات ، لا يجوز لآي سلطة دستورية أن تتدخل في سير عمل سلطة دستورية أخرى وأن تمنعها من ممارسة مهماتها بشكل منظم. وأن حرمان الهيئة القضائية من النظر في الطعون الدستورية، سواء كان ذلك لوقت محدد أو غير محدد ، هو أمر مرفوض دستوريا لأنه يقوض أركان الدولة عن طريق القضاء على إحدى السلطات الثلاث فيها: السلطة القضائية".
إن ما صدر عن رأس السلطة التنفيذية في مصر سواء استنادا على سلطته التشريعية أو التنفيذية بشأن تعطيل الهيئات القضائية في البلاد عن ممارسة أدوارها ووظائفها الموكولة إليها ، يجب ألا يكون مسندا إلي وقائع غير صحيحة ، أو أسباب قانونية خاطئة ، أو خطأ ساطع في التقدير ، و لا أن يكون مشوبا بالانحراف في استعمال السلطة ، لأن السلطة التنفيذية هنا تكون قد "فرضت على البلاد و العباد تشريعا سلطويا فاسدا يعطل المصلحة العامة بدلا من أن يسيرها على نحو منتظم ، و أن المشرع الذي تجري إزاءه الرقابة الدستورية على أعماله لا يستطيع ، هو بذاته ، أن يحمي نفسه من مغبة قاعدة دستورية قد وضعت بغية ردعه" .
دكتور أيمن سلامة..